صفحات ناصعة
من سيرة الإباضية
والإباضية الذين قلت فيهم -يا طحان- بأنهم أفراخ الخوارج، إن كنت لا تدري ما سيرتهم فإنني سوف أنقل لك هنا بعض ما دونوه في فقههم من أحكام الجهاد، وأنقل لك أيضاً بعض تصرفهم في ميادين القتال عندما يواجهون أعداءهم من البغاة الذين اعتدوا عليهم، فهم أبعد ما يكونون عن سفك دماء المسلمين، وأكثر احتياطاً، ولا يغنمون شيئاً من أموالهم مهما كان بغيهم.
حكم أهل البغي عند الإباضية:-
فهذا الإمام نور الدين السالمي -رحمه الله تعالى- في كتابه "جوهر النظام" عندما تكلم في أحكام الجهاد تحدث عن أهل البغي، فذكر أنهم -ولو قوتلوا- لا يحل شيء من أموالهم، وذلك الذي أطبقت عليه جميع كتب الإباضية، ولكن أنقل لك هنا نص كلام الإمام السالمي حيث قال:-
ومال أهل البغي لا يحـل وإن يكن قوم له استحلوا
ثم ذكر مَن هؤلاء الذين استحلوا أموالهم:-
خوارج ضلت فصارت مارقة
فحكموا بحكم المشركينا
فعرضوا للناس بالسيف كما
وأمة المختار فارقتهم
ووردت فيهم عن المختار
وفـيـهم المروق يعرفــنا من دينها صفرية أزارقة
جهلاً على بغاة المسلمينا
قد استحلوا المال منهم مغنما
وضللتهم وفسقتهم
جملة أخبار مع الآثار
ومـنـهـم لا شك نبرأنا
ثم احتج بفعل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين كانوا يحرصون على عدم غنم أموال أهل التوحيد فقال:-
ولم يكن غنم بيوم الجمل
كذاك يوم الدار أيضاً لم يكن
فعلهم الحجة فيما فعلوا
ولم يكن للعمرين فيهم
لأن خصمهم بالارتداد
تأول السابي لهم يوم دبا
وزعم الغلاة أن هذا
تعلقوا فيه بنفس الـزلــل ويوم صفين وسبي من علي
سبي ولا غنم فكيف يقبلن( )
ونقلهم فيما له قد نقلوا( )
سبي ولا غنم كما قد زعموا
يدعون لا بالبغي والفساد
وأنكر الفاروق ذاك المذهبا
وجه يكون لهم ملاذا
وما أتى م نحو ذا لم يقبـل( )
بل أصحابنا أهل الحق والاستقامة -رحمهم الله تعالى- لا يرون جواز الإجهاز على الجريح إن كان من أهل البغي ولم يكن من المشركين، ولا يرون جواز إتباع الهارب منهم، اللهم إلا أن يكون لهم مأرز يرجعون إليه، وحمى يحتمون به وقوة يلوذون بها، وفي هذا تحدث الإمام السالمي -رحمه الله تعالى- حيث قال:-
فإن أبى فإنه يقاتل( )
من غير أن يغنم ماله ولا
كذاك لا يتبع منهم مدبر
إلا إذا كان لهم سلطان
فـيـتبع المدبر والجريـح وتقطع الأسباب والوسائل
تسبى ذراريه فكل حظلا
كذا الجريح ما عليه يجهز
يمدهم أو لهم أعوان
يـجـاز إذ بغيهم صريح
وفي هذا استدل أيضاً بفعل الصحابة:-
لذا علي كان في يوم الجمل لم يتبع المدبر بل منه حظل( )
سيرة الإمام طالب الحق الكندي في اليمن:-
وأما إن سألت عن سيرة أهل الحق والاستقامة، فأريدك أن تقرأ بعض ما كتبه الكاتبون من غير الإباضية، فانظر- إن شئت- ما حفظه المؤرخون عن سيرة الإمام طالب الحق عبدالله بن يحيى الكندي وقائده أبي حمزة المختار بن عوف( )، ومن بين هؤلاء الذين كتبوا عن سيرة هذين الإمامين الجليلين الصالحين -رحمهما الله تعالى- البلاذري في كتابه "أنساب الأشراف" والأصفهاني في كتابه "الأغاني".
ومما ذكر من سيرتهما أن أبا حمزة عندما واجه جموع البغاة في قديد فاعترضوهم، حاول أن يقيم الحجة عليهم قبل أن تكون هناك مناوشة، وحاول أن يقنعهم بأنه ما قام أشرًا ولا بطرًا وإنما قام لإظهار الحق وإقامة كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم في الأرض، فما كان من أولئك البغاة إلا أن عتوا واستكبروا استكبارًا، ولكن أبا حمزة مع ذلك قال لأصحابه:(لا تبدأوهم بالقتال) حتى رمى أولئك البغاة بسهامهم في جند أبي حمزة فأصابوا رجلاً من جنده، فقال لأصحابه: (دونكم الآن فقد حل قتالهم).
فانظر كيف يحتاط الإباضية أيما احتياط عندما يواجهون أعداءهم البغاة، ولا يستحلون حتى سفك دمهم إلا بطريق واضح لا غبار عليه بعد أن يقيموا عليهم الحجة، وبعد أن يبدأ أولئك البغاة بالقتال.
وعندما دخل الإمام طالب الحق عبدالله بن يحيى الكندي -رحمه الله تعالى- صنعاء بعدما هزموا القائد الأموي القاسم بن عمر الثقفي، عامله الإمام عبدالله بن يحيى الكندي معاملة حسنة فلم يحز غلصمته، أو يقطع رأسه، بل لم يصنع به أي شيء، وإنما أخرجه ومن معه وهم سالمون من كل أذى.
ووجد الإمام طالب الحق الأموال الكثيرة التي جباها هذا العامل من الناس وتكدست في خزينته، وكان الإمام طالب الحق وأصحابه في فقر مدقع وهم بحاجة ملحة إلى المال، ولكنهم لم تشرئب أعناقهم إلى هذه الأموال بل قسموها بين أهل صنعاء، يقول في ذلك البدر الشماخي في كتابه " السير" في ص(99) من الطبعة الأولى( ): (وخلص لعبدالله وقسم ما وجد من مال على فقراء صنعاء، قصد إليهم ابن خيران وعبدالله بن مسعود وغيرهما من المسلمين فأتوا من الخزانة إلى المسجد، فقسمه عبدالله على فقراء صنعاء، ولم يأخذ منه شيئاً ولم يستحل منه لأصحابه متاعاً).
وفي هذا يقول الإمام السالمي رحمه الله تعالى:-
وطالب الحق بصنعا حكما
لم يأخذن عند مضيق يومه
تعففاً منهم ومن كمثلهم
كانوا يموتون على ما أبصـروا بجعلها في أهلها واحتشما
شيئاً لنفسه ولا لقومه
أكرم بهم من عصبة أكرم بهم
من الهدى ما بدلـوا أو غيروا( )
ثم إن الإمام طالب الحق –أيضاً- عامل هذه المعاملة الحسنة إبراهيم بن جبلة الذي كان والياً على حضرموت من قبل بني أمية، فأباح له أن يخرج من حضرموت وقال له: (إما أن تقيم عندنا وإما أن تشخص ولا عليك حرج في ذلك) فاختار الخروج، فخرج إلى القاسم الثقفي في صنعاء ولم يعترضه الإمام طالب الحق.( )
لم يفعل كما يفعل هؤلاء الحشوية عندما ينتصرون على أحد من المسلمين، يحرصون كل الحرص على إبادتهم وقطع دابرهم واستئصال شأفتهم، ولم تسلم منهم الحوامل ولا الأجنة التي في الأرحام.
سيرة الإمام أبي الخطاب المعافري في طرابلس والقيروان:-
وكان الإمام أبو الخطاب المعافري( ) - الذي عقدت عليه الإمامة في بلاد المغرب بطرابلس- له دور عظيم في نشر الحق وفي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقد قام في بداية أمره على عامل أبي جعفر المنصور ببلاد طرابلس، فانتصر عليه إلا أنه لم يتشف منه بعد انتصاره عليه، بل خيره بين المقام معهم على أن يكون له ما لهم وعليه ما عليهم، وبين أن يخرج آمناً مطمئناً، لا يكدر له صفو ولا يسفك له دم، ولا ينتهك له عرض، ولا يؤخذ عليه مال، فاختار الخروج، فخرج إلى بلاد المشرق وهو آمن مطمئن.
وهذا الإمام نفسه عندما بلغه استصراخ امرأة من القيروان من جور ورفجومة -وهي قبيلة صفرية خارجية كانت تعيث فساداً في بلاد القيروان- فقد كتبت إليه رسالة تشكو إليه الجور والخوف وعدم الطمأنينة، حتى أنها كانت تخفي ابنتها في حفرة تحفرها خشية أن يسبيها هؤلاء الخوارج الصفرية، عندما وصل كتابها إلى الإمام بكى من ذلك وقال: (لبيك يا أختاه) وخطب بعد صلاة أقامها وحض الناس على الجهاد، فخرج مجاهداً إلى تلك القبيلة العاتية التي كانت مستولية على القيروان، وعندما وصل إلى القيروان أمر أصحابه ألا ينتهكوا عرضاً، ولا يأخذوا مالاً، فإن أولئك مهما كان بغيهم هم من أهل التوحيد، ولا يباح شيء من أموالهم قط، ولا يباح إلا سفك دمهم بسبب بغيهم حتى يعودوا إلى الحق.
وفي هذا يقول العلامة الدرجيني في كتابه "طبقات المشائخ بالمغرب"( ) حاكياً ما حصل بعد هذه الوقعة التي انتصر فيها الإمام رحمه الله تعالى ومن معه من المسلمين يقول: (وحدث بعض أصحابنا أن شيخاً من شيوخ القيروان بعث ابناً له يرتاد مزرعة كانت له بالقرب من منزل عسكر أبي الخطاب، فقال: (يا بني، اذهب وانظر هل بقي في مزرعتنا شيء؟) قال: فخرج الغلام إلى المزرعة فوجدها سالمة لم ينلها فساد، فرجع الغلام إلى أبيه فأخبره، فتعجب لذلك، وعجب الناس لعدل أبي الخطاب وسيرته وطاعة أصحابه له فيما يأمرهم به، وينهاهم عنه، وكان من مقالة الشيخ المذكور إذ ذاك لمن حضره من أهل القيروان: (أتظنون أن أبا الخطاب يشبه من ولي عليكم قبله ديناً وفضلاً؟ وأن سيرتهم كسيرته حسناً وعدلاً؟ كلا والله أين مثل أبي الخطاب في سيرته وعدله وفضله.؟).
ثم يقول العلامة الدرجيني: (وبلغنا أن امرأتين قد خرجتا من القيروان حين فتحها الله لأبي الخطاب بعد هزيمة أهلها، فنظرت إحداهما إلى القتلى مزملين في ثيابهم كأنهم رقود، فقالت لصاحبتها: (انظري إليهم كأنهم رقود) فسمي ذلك الموضع "رقادة" إلى اليوم) ثم يقول بعد ذلك: (ولما دخل أبو الخطاب المدينة أمر أهل المدينة يخرجوا إلى قتلاهم ليدفنوهم).
ثم تحدث بعد ذلك عن وقفة وقفها أبو الخطاب عندما وجد أحداً من جند عدوه القتلى قد أُخِذَ سلبه، فضاقت عليه الدنيا بما رحبت بسبب هذا التصرف المخالف لشريعة الله، يقول العلامة الدرجيني: (وقد أمر أبو الخطاب من يتفقد القتلى، فوجد قتيلاً واحداً منهم مسلوباً، وأمر منادياً ينادي في عسكره: (من نزع عن أحد من القتلى شيئاً فليردده) فلم يرد أحد شيئاً، فعلم أن سالبه عمل غير صالح، فلما أيس من رد سلب القتيل المذكور طوعاً ومخافة من عقاب الله تعالى، دعى أبو الخطاب ربه عز وجل أن يفضحه ويظهره على أعين الناس، فأمر أبو الخطاب فرساناً من عسكره بأن يخرجوا ويجروا خيلهم بين يديه وكان فيهم رجل فارس من سدراته، فلما أجريت الخيل انقطع حزام سرج السدراتي، فوجد كساءً سفسارية تحت سرجه، فسقطت الكساء على أعين الناس، وقيل: بل كان جبة حرير) ثم يقول بعد ذلك: (كل ذلك من الكرامات، فأخذه الإمام رحمه الله وعزره حسب ما اقتضاه الاجتهاد) يعني أن الإمام عزر أحد جنوده بسبب هذه المخالفة التي وقع فيها فلم يسكت عنها، لا كما تفعل الحشوية حيث تستبيح الأموال وتنتهك الأعراض.
ثم يقول العلامة الدرجيني: (وبلغنا أن أبا الخطاب رضي الله عنه لما هزمهم أحسن فيهم السيرة، وأمر أصحابه ألا يتبعوا مدبراً ولا يجهزوا على جريح، فقال رجل من لواتى من معسكر أبي الخطاب يقال له خالد: (نأكل من أموالهم كما يأكلوا أموالنا ويعتقدون أنها غنيمة أحلت لهم، فقال أبو الخطاب رحمه الله: (إن فعلنا كما فعلوا فحق على الله أن يرفضنا ويدخلنا معهم جهنم، فنكون كما قال الله تعالى: كلما دخلت أمة لعنت أختها حتى إذا اداركوا فيها جميعاً قالت أخراهم لأولاهم ربنا هؤلاء أضلونا فآتهم عذاباً ضعفاً من النار قال لكل ضعف ولكن لا تعلمون وقالت أولاهم لأخراهم فما كان لكم علينا من فضل فذوقوا العذاب بما كنتم تكسبون ( ).
هذا هو تصرف الإباضية الذين جعلتهم أيها الحشوي أفراخ الخوارج.
يا طحان، حاولت برحاك أن تطحن حجة الحق الدامغة، وأن تلبس الحق بالباطل، وأن تصور أهل الحق في صورة أهل الباطل، ولكن يأبى الله ذلك، فالشواهد قائمة والبينة ظاهرة، ونحن نعلم يقيناً أن الإباضية في جميع أدوارهم يتحرجون كل التحرج من مال الموحد مهما كان، ولو أبيح دمه بسبب بغيه.
سيرة الإمام عزان بن قيس في عُمان:-
ومما ذكره إمامنا نور الدين السالمي رحمه الله تعالى في كتابه "تحفة الأعيان بسيرة أهل عمان" أن الإمام العدل عزان بن قيس رضي الله تعالى عنه( ) قام على طائفة باغية في أطراف بلاد عمان، فلما ذهب إليهم بجنده نزل في قرية، وتلك القرية كانت مشهورة بجودة الأنبا -أي شجر المانجو- فنزل أصحابه تحت ظلال تلك الأشجار، وكان ذلك وقت ثمرها، فتساقط الثمر في أوعيتهم وفرشهم، فما مد أحد منهم يده ليأخذ شيئاً من هذه الثمار، إلا أحد الجند أخذ ثمرة واحدة فزجره الإمام عن ذلك زجراً شديداً، وشدد عليه التقريع واللوم على ذلك( ) وإن لم يعاقبه فإنه ربما نظر إلى أن هذه الثمرة سقطت بنفسها ولم يمد يده ليأخذها، فمن أجل ذلك ترك عقوبته، لكن مهما يكن من أمر فإن ذلك دليل واضح على أن أهل الحق والاستقامة يتحرجون تحرجاً شديداً من أموال أهل التوحيد.
دور الإباضية في حرب النصارى وطرد المستعمرين:-
إننا نسأل هؤلاء الحشوية الذين يزعمون أنهم سلفية، وأنهم على طريق الحق، وأنهم يغارون لدين الله، من قاتلوا من المشركين؟! هل خرجت حروبهم عن الجزيرة العربية التي هي مهد الإسلام، والتي ظلت على دين الإسلام منذ بعث الله نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم؟ هل كانت الجزيرة العربية في يوم من الأيام مرتدة عن دين الإسلام، حتى يستبيحوا حرم أهلها، فيسفكوا دماءهم، ويأخذوا أموالهم، ويعاملوهم معاملة المشركين، يزهقون أرواحهم وأرواح الأجنة في أرحام نسائهم؟!.
أما الإباضية -أهل الحق والاستقامة- فإن تأريخهم حافل بمواجهة أعداء الإسلام في كل مكان سواء كان ذلك في المشرق أو في المغرب.
ففي بلاد المشرق هنالك الكثير من الوقفات التي وقفها أئمة الإباضية وسادتهم وقادتهم في مواجهة الكفرة وصد هجماتهم ذباً عن دين الله سبحانه وتعالى.
دور الإمام الصلت بن مالك في طرد نصارى الحبشة:-
من ذلك أن نصارى الحبشة أغاروا على بلاد سقطرى، فكتبت امرأة -بعدما استبيحت الحرمات في تلك البلدة- قصيدة غراء إلى الإمام الصلت بن مالك الخروصي رحمه الله تعالى( ) الذي كان بعمان، وجاء في تلك القصيدة التصوير البالغ لأفعال أولئك الكفرة، الذين استباحوا ما استباحوه من أعراض النساء المسلمات بما يندي الجبين ويدمع العين، ومما جاء فيها:-
ما بال صلت ينام الليل مغتبطاً
وفي سقطرى حريم باد بالنهب
قل للإمام الذي ترجى فضائله
بأن يغيث بنات الدين والحسب
فقام الإمام وجند الأجناد وأرسل أسطولاً يتكون من مائة سفينة وسفينة، وأمر على الأسطول قائدين من أصحابه، وكتب إليهم عهداً يبلغ خمساً وعشرين صفحة، فيه ما يجب أن يتبينه كل مسلم من سيرة الإباضية، حيث أمرهم ألا يذعروا أحداً حتى أولئك النصارى حتى يقيموا عليهم الحجة، ويدعوهم إلى الإسلام أولاً، فإن أبوا فليدعوهم إلى تسليم الأمر وقبولهم أن يكونوا في ذمة المسلمين، فإن أبوا فليقاتلوهم.
فنصر الله سبحانه وتعالى المسلمين، وهزم القوم الكافرين( ).
دور اليعاربة في تطهير البلاد الإسلامية من البرتغاليين:-
ومن ذلك أيضاً ما قام به الإمام الفاتح المظفر ناصر بن مرشد اليعربي رحمه الله تعالى( )، إذ قام على البرتغاليين الذين كانوا يجتاحون بلاد الخليج، وقد اجتاحوا كثيراً من بلاد الإسلام في الشرق( )، فقام عليهم وأجلاهم من بلاد الخليج، ثم قام بعد ذلك خلفاؤه من بعده بإجلاء أولئك البرتغاليين من شواطيء شرق إفريقيا، وشواطيء بلاد فارس، وشواطيء بلاد الهند ومن غيرها، فكان انتصارا مظفراً( ).
دور إباضية تونس في حماية جزيرة جربة من الأسبان:-
وأما بلاد المغرب؛ فكانت كذلك هنالك جولات لأصحابنا أهل الحق والاستقامة سواء الذين هم في تونس أو الذين هم في الجزائر في مواجهة الكفرة.
ومن ذلك ما كان من أهل جزيرة جربة -وهي جزيرة صغيرة يحيط بها البحر من جهاتها الأربع- في مواجهة أساطيل الأسبان الذين كانت ترهب أساطيلهم الشمال الأفريقي بأسره، فقد واجهوهم بقوة وعزم وحزم، وإن كنت يا طحان ومن معك من الحشوية تجهلون ذلك فاسأل التأريخ الذي كتبه غير الإباضية، واسأل التأريخ الذي كتبه النصارى أنفسهم عن هؤلاء الإباضية -أهل الحق والاستقامة- كيف واجهوا أولئك النصارى في تلك الديار؟ وكيف أنزلوا بهم الهزائم المتلاحقة؟ وتكفي تلك الهزيمة النكراء التي أصيب بها أولئك النصارى بقيادة الإمام المظفر أبي النجاة يونس بن سعيد التعاريتي والإمام أبي زكريا يحيى السمومني، وكان ذلك في السنة السادسة بعد التسعمائة من الهجرة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة والسلام، فقد هزموا أسطولاً يتكون من مائة وعشرين سفينة، فيه عشرون ألفاً من المقاتلين المدججين بالسلاح المزودين بأحدث ما ابتكره الإنسان في ذلك الوقت من وسائل الإبادة والتدمير.
وشاء الله سبحانه وتعالى أن يحقق لهؤلاء الإباضية -أهل الحق والاستقامة- كرامة، إذ عصفت العواصف بالنصارى بعد ما انهزموا ورجعوا إلى سفنهم، فتكسرت تلك السفن وتحطمت وهلك منهم خلق كثير، كما دون ذلك التاريخ( ).
دور إباضية الجزائر في الدفاع عن العاصمة الجزائرية:-
عندما نزل الأسبان بالعاصمة الجزائرية( )، واجههم الإباضية -أهل الحق والاستقامة- حيث جاءوا من وادي ميزاب على بعد أكثر من ستمائة كيلومتر لينصروا إخوانهم المسلمين بالعاصمة الجزائرية، فأبلوا بلاءً حسناً، وقدرت لهم الدولة العثمانية هذا الدور الإيجابي الفعال الذي فعلوه، لذلك اختصتهم ببعض المزايا.( )
هكذا يصنع الإباضية، وتلك هي صنائع الحشوية الذين ما كان منهم إلا سفك دماء المسلمين وأخذ أموالهم، وما كان منهم إلا إخافة المسلمين، ولم تسلم منهم حتى الأجنة؛ أجنة المسلمين في أرحام الأمهات فالله تعالى المستعان.
اعتراف...
وإنكار...!!
ومن الدواهي التي جاء بها هذا الطحان أنه حاول أن يشنع على أهل الحق والاستقامة بسبب تفرقتهم في تفسير النظر، بين النظر المذكور في سورة الأعراف في قوله تعالى: ربي أرني انظر إليك ( ) وبين النظر المذكور في سورة القيامة في قوله تعالى: وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة ( ).
ولست أدري هل هذه مكابرة للحقيقة، ومحاولة لتكذيب العقل السليم، أو أن ذلك عائد إلى جهل هذا الطحان وعدم تفرقته بين ما تدل عليه هذه القرينة وما تدل عليه تلك من الكلام، فهو نفسه ذكر في كلامه أن النظر يأتي لمعانٍ، وأقر أن النظر يأتي لمعان متعددة، أوصلها إلى أربعة معان، وقد نص على ذلك في كتب اللغة العربية، ومع ذلك كله نجد أنه يحاول أن يلبس الحق بالباطل في هذه القضية، مشوهاً صورة أهل الحق والاستقامة، عازياً إليهم الباطل وهم براء منه.
فهناك -يا طحان- فرق كبير ما بين هاتين الآيتين، ذلك لأن قوله تعالى في سورة الأعراف: ربي أرني انظر إليك اقترن فيه النظر بذكر الرؤية، كما يدل أيضاً قوله سبحانه وتعالى في الرد على هذا الخطاب في قوله: لن تراني على أن المقصود بالنظر هنا الرؤية.
أما في قوله تعالى: وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة فإن تلك الآية يقتضي سياقها خلاف ما تذهب إليه يا طحان، كيف وهي مسبوقة بقوله تعالى: ناضرة الذي يدل على النضارة والبهجة والحسن، وجاء بعدها قوله سبحانه وتعالى: ووجوه يومئذ باسرة تظن أن يفعل بها فاقرة أي تظن أمراً يقطع فقار ظهورها، فهذه ناضرة، وتلك باسرة، وهذه إلى الله ناظرة أي منتظرة لرحمته ودخول جنته، وتلك بخلاف ذلك أي تتوقع أمراً يقطع فقار ظهورها تظن أن يفعل بها فاقرة فشتان ما بين هذا المعنى وذلك المعنى، وإن خفي ذلك على مثل فهمك المؤوف، فإنه -بطبيعة الحال- يرجع إلى سوء فهمك ولا يرجع إلى الحقيقة التي تحاول أن تكابرها وتنكرها.
وقول الله تعالى: وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة هو كقوله تعالى: وجوه يومئذ مسفرة ضاحكة مستبشرة ( ) لا فرق بين هذا وذاك، وخير ما يفسر القرآن الكريم القرآن نفسه، وأقوى حجة في فهم معنى القرآن هو ما جاء من نصوص القرآن نفسه.
افتراء وجرأة
على الكتاب والسنة
ولكنك -يا طحان- كيف يمكنك أن تبلغ مثل هذه الحقائق وأنت المجترئ على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم إذ قلت فيهما قولاً عظيماً: تكاد السموات والأرض يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هداً ( ) ذلك لأنك قلت في كتاب الله سبحانه وتعالى بما يجعلك خصماً لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم يوم القيامة عندما قلت: (لا خير في قرآن بلا سنة، ولا خير في سنة بلا فهم لسلفنا الكرام) وقلت: (فكل من يدعو إلى كتاب بلا سنة فهو ضال، وكل من يدعو إلى كتاب وسنة بلا فهم لسلفنا الأبرار فهو ضال)(*) فاجترأت بوقاحتك وبسوء عقيدتك وبجرأتك على ربك تبارك وتعالى أن نفيت الخير عن كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، والله سبحانه وتعالى وصف الكتاب العزيز بخلاف ما قلته، ولم يأت في كتاب الله شيء ينفي الخير عنه، ولم يأت فيه شيء ينفي الخير عن سنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
فالله تعالى يقول في هذا الكتاب العزيز: ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين ( ) ويقول سبحانه: تلك آيات القرآن وكتاب مبين، هدى وبشرى للمؤمنين ( ) ويقول عز من قائل: تلك آيات الكتاب الحكيم هدى ورحمة للمحسنين ( ) ويقول الله سبحانه: لقد جاءكم من الله نور وكتاب مبين، يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه ويهديهم إلى صراط مستقيم ( ).
وأنت -يا أيها الطحان- اجترأت على الله سبحانه وتعالى فقلت هذا القول العظيم في كتابه، ونفيت الخير عنه وجعلته مجرد قنطرة عبور إلى غيره، من أين لك ذلك؟!!.
وسقط القناع...!!
هنا سقط برقع الحشوية إذ يتبرقعون باسم السلفية، ويدَّعون زوراً وبهتاناً أنهم من أتباع سلفنا الصالح -الصحابة والتابعين- شتان بين الصحابة والتابعين وبين هؤلاء الحشوية الذين يقولون على كتاب الله وعلى سنة رسوله صلى الله عليه وسلم ما لم يأذن به الله.
اقرأ يا طحان قول الله سبحانه وتعالى في كتابه العزيز: وكذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان، ولكن جعلناه نوراً نهدي به من نشاء من عبادنا وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم ( ) سماه الله روحاً لأن الأرواح تحيا به، كما أن الأجساد تحيا بالأرواح، وسماه نوراً لأن البصائر تستهدي به، ولكن أي بصائر هذه؟! إنما هي بصائر المؤمنين، لا بصائر الحشوية الذين يجترئون على الله فيصفونه بصفات خلقه، والذين يجترئون على كتاب الله فيكذبونه، إذ ينفون الخير عنه.
ويقول الله سبحانه وتعالى: وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلا خساراً ( ) فالله تعالى سمى هذا القرآن شفاءً وسماه رحمة للمؤمنين، ولكن مع ذلك لا يزيد الظالمين الذين يجترئون عليه فيكذبونه ويردونه من أمثال الحشوية إلا خساراً.
وقد بلغ الأمر بالحشوية أن اجترأوا هذه الجرأة العظيمة التي أسقطت قناعهم، وفضحت عوارهم، وبينت دخائلهم، وكشفت حقيقة أمرهم للمؤمنين، فقد وضح الصبح لذي عينين من كلام هذا الطحان عندما وصف هذا القرآن بما وصفه به، على أن القرآن الكريم يأمرنا عند الاختلاف أن لا نحتكم إلا إلى القرآن نفسه وإلى سنة الرسول صلى الله عليه وسلم، فالله تعالى يقول: فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ( ).
كيف تجترئ -يا طحان- على أن تجعل القرآن الكريم مجرد قنطرة عبور وتنفي عنه الخير، والله سبحانه وتعالى يقول فيه: يا أيها الناس قد جاءكم برهان من ربكم، وأنزلنا إليكم نوراً مبيناً ( ) وقد صدق الله سبحانه وتعالى عندما وصف المنافقين بما وصفهم به إذ قال: وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول رأيت المنافقين يصدون عنك صدوداً ( ) وقال: وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول قالوا حسبنا ما وجدنا عليه آباؤنا أو لو كان آباؤهم لا يعلمون شيئاً ولا يهتدون ( ).
فالضالون هم الضالون والمنافقون هم المنافقون في كل عصر، لقد انكشفت دخائلكم يا معشر الحشوية من خلال هذا الكلام الذي تلقفتموه بالقبول ونشرتموه في أرجاء الأرض، هذا دليل على أنكم جميعاً مواطئون للطحان فيما يقوله، مجامعون له في هذا الاعتقاد الخبيث في كتاب الله وفي سنة رسوله صلى الله عليه وسلم؛ اعتقاد نفي الخير عن كتاب الله وعن السنة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة والسلام، يقول الله تعالى في كتابه: كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته وليتذكر أولوا الألباب ( ) ويقول سبحانه: قد فصلنا الآيات لقوم يذكرون ( ).ويقول: فقد جاءكم بينة من ربكم وهدى ورحمة ( ).
ويقول سبحانه: اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء قليلاً ما تذكرون ( ).
ويقول سبحانه: يا أيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم وشفاء لما في الصدور وهدى ورحمة للمؤمنين ( ) إي وربي إنه لهدى ورحمة للمؤمنين.
ويقول سبحانه: كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير ( ).
ويقول عز من قائل: إنا أنزلناه قرآناً عربياً لعلكم تعقلون ( ).
ويقول سبحانه: إنا جعلناه قرآناً عربياً لعلكم تعقلون ( ).
ويقول تعالى: كتاب فصلت آياته قرآناً عربياً لقوم يعلمون ( ).
ويقول سبحانه وتعالى: قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء لم يقل لا خير فيه بل قال: قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء والذين لا يؤمنون في آذانهم وقر وهو عليهم عمى أولئك ينادون من مكان بعيد ( ) نعم، الحشوية المجسمة الذين يكذبون كتاب الله سبحانه وتعالى هو في آذانهم وقر وهو عليهم عمى، لذلك اجترأوا على هذا الكتاب العزيز فوصفوه بما وصفوه به، وهو دليل على أنهم يحاربون عقيدة الإسلام بل يحاربون نفس الإسلام، إذ هم يبطنون الكيد له ويحيكون المؤامرات ضد أهله.
يقول الله سبحانه: ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر ( ) فالله سبحانه وتعالى يسر هذا القرآن للذكر وقال: هل من مدكر؟.
ثم قال فيه سبحانه أيضاً: ما كان حديثاً يفترى ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل كل شيء وهدى ورحمة لقوم يؤمنون ( ).
وقد أنذر الله سبحانه وتعالى هؤلاء الذين يجترؤون على كتابه بالرد والإعراض والصدّ عنه فقال: وقد آتيناك من لدنا ذكراً من أعرض عنه فإنه يحمل يوم القيامة وزراً خالدين فيه وساء لهم يوم القيامة حملاً ( ).
هذه عاقبة الحشوية الذين يكذبون كتاب الله.
هذه عاقبتك يا طحان إن لم تتب إلى ربك، وتقلع عن غيك، وتؤمن بكتاب ربك وسنة نبيك صلى الله عليه وسلم، على أننا نقول: إن كنت تقصد بهذا الكلام أن كتاب الله سبحانه وتعالى بحاجة إلى البيان والإيضاح، فمهما يكن من أمر لا يجوز لأحد أن يجتري على أن يقول: كتاب الله لا خير فيه. ونحن نقول بأن كثيراً من آيات الكتاب فصلت تفصيلاً كما أخبر الله سبحانه وتعالى بأنه كتاب فصلت وبينت آياته في آيات متعددة، فالكتاب العزيز كثير من قضاياه جاءت مفصلة مبينة لا سيما تلك القضايا التي تتصل بالعقيدة، فلا يمكن أن يقال بأن التمسك بها لا خير فيها، على أن كتاب الله سبحانه وتعالى قد نقل إلينا نقلاً تواترياً فلا يجوز لأحد أن يشك في حرف منه، فقد أجمعت الأمة على نقله جيلاً بعد جيل منذ نزوله على قلب النبي الخاتم محمد صلى الله عليه وسلم وإلى وقتنا هذا، فلا ريب في أي شيء جاء به القرآن الكريم.
ونصوص القرآن الكريم في كثير من القضايا -كما قلت- نصوص واضحة ظاهرة، فيجب الاحتكام إليها، وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم هي الحجة بعد كتاب الله، والله تعالى أخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم بأنه لا ينطق عن الهوى، وأخبر عن قوله بأنه وحي يوحى بقوله سبحانه وتعالى: وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى ( ) فيجب التسليم بما ثبت عن الرسول صلى الله عليه وسلم ثبوتاً جازماً من غير أن يكون هناك أي تردد، على أن الناس جميعاً -وإن عظمت أقدارهم، وكثرت علومهم، وعظم فضلهم- فهم لا يمكن بأي حال من الأحوال أن يرفع كلامهم إلى منزلة كلام الله وكلام النبي صلى الله عليه وسلم، فالواجب أن ينزل كلام كل أحد منزلته، فكلام الناس جميعاً إنما يجب أن يعرض على كلام الله وعلى كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ الكتاب العزيز والسنة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة والسلام هما الميزان العدل الذي يفرق به بين الحق والباطل، والمحك الذي يتبين به الهدى والضلال، والغي والرشد، والاستقامة والانحراف، ومهما يكن من أمر فإن المسلم الحق لا يتردد في قبول شيء مما جاء من كتاب الله تعالى ومن سنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
أما أولئك الذين فسدت فطرهم، وانحرفت عقائدهم، وضلت عقولهم، فهم الذين يقدمون كلام غير الله سبحانه وتعالى على كلامه، ويقدمون حديث الناس على ما ثبت عن الرسول صلى الله عليه وسلم، ويردون الحق بالباطل، لا إله إلا الله، ما هذه المصيبة التي حلت بالإسلام؟!.
كيف يجتري هؤلاء في بلاد الإسلام وبين أوساط المسلمين على كتاب الله وعلى سنة رسوله صلى الله عليه وسلم؟!
أين غيرة أولي البصائر من المسلمين؟!
على أن هذا ليس ببعيد إذا نظرنا إلى حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما قال عليه أفضل الصلاة والسلام: ((لتتبعن سنن من قبلكم شبراً بشبر، وذراعاً بذراع حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه)) ( ) فإن الله سبحانه وتعالى يقول في أهل الكتاب -الذين هم أسلاف هؤلاء الحشوية كما تبين لنا-: اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله والمسيح ابن مريم ( ) وعندما قال عدي بن حاتم لرسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنهم لم يعبدوهم) قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أليسوا قد أحلوا لهم الحرام، وحرموا عليهم الحلال فأطاعوهم)) قال له: (بلى) قال: ((فتلك عبادتهم إياهم)) ( )
فتحليل الحرام وتحريم الحلال عدها الله تبارك وتعالى عبادة لهؤلاء الذين يخالفون أمره ويجانفون الحق الذي أنزله، فكيف بهؤلاء الذين يجترؤون هذه الجرأة الوقحة على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم إلى حد أن يقولوا بنفي الخير عنهما.
ولا ريب أننا ونحن نسمع مثل هذه الفلتات التي تنم عن خبث طوايا هؤلاء الحشوية، وعن محاربتهم للحق وللإسلام، ومحاولتهم الصدّ عن سبيل الله وصرف المسلمين عن كتابه الكريم وعن سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، نتذكر ذلك الوصف العجيب الذي ذكره الله عز وجل في المنافقين عندما قال لرسوله صلى الله عليه وسلم: فلعرفتهم بسيماهم ولتعرفنهم في لحن القول ( ) فإن فلتات ألسنتهم وبوادر كلامهم تنم عن خبث طواياهم وتكشف حقيقة أمرهم، وقد تبين لنا من خلال هذا الذي سمعناه من هذا المحاضر -الطحان- ومن غيره من هؤلاء الحشوية، خبث المقصد، فهم يكيدون كيداً والله سبحانه يكيد لهم كيداً، فقد كشف الله سبحانه وتعالى عوارهم، وأسقط برقعهم من فلتات ألسنتهم، فقد تبين بهذا أنهم معادون لكتاب الله ولسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وما هم إلا امتداد لأولئك المنافقين الذين تقمصوا الإسلام في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم لأجل الكيد للإسلام والمسلمين، وما هذا إلا حلقة في سلسلة مؤامراتهم على الإسلام.
وقد يقول قائل: بأن هؤلاء الحشوية لعلهم غير مجمعين على هذا الرأي، ولعلهم لا يجامعون الطحان على هذه العقيدة؛ عقيدة أن القرآن الكريم وحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم لا خير فيهما وأنهما مجرد قنطرة عبور يتوصل بهما إلى ما قاله أسلافهم من لي أعناق الآيات حتى تتفق مع أهوائهم وخرافاتهم وبدعهم.
والجواب عن ذلك: أن الحشوية لو لم يكونوا مجامعين للطحان في هذا المعتقد وراضين بهذا المقال، ومشاركين له في هذه المؤامرة ضد الإسلام والمسلمين لما طاروا فرحاً بهذه المحاضرة، ونشروا أشرطتها في أرجاء الأرض، فلا تكاد مكتبة من مكتبات الحشوية تخلو من العدد الهائل من أشرطة هذه المحاضرة التي فيها هذه المحاربة الصارخة الصريحة لكتاب الله ولسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ولو كانت الحشوية غير موافقة للطحان في هذا الذي قاله لأعلنت الرد عليه، وقد مضى وقت على إلقائه هذه المحاضرة فمن ذا رد عليه يا قوم؟! ( ).
هل رد عليه أحد؟ أو أنهم حرصوا كل الحرص على نشر هذا الهراء، ونشر هذا الباطل في أرجاء الأرض إنهم يكيدون كيداً وأكيد كيداً فمهل الكافرين أمهلهم رويداً( ).
افتراء الطحان
على سلف الأمة
ثم إن الطحان حاول أن يكابر الحقيقة عندما ادعى أنه لم يقل بما فسرنا به قول الله تعالى: وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة أحد من السلف.
ما المراد بكلمة "السلف" في كلامه؟.
هل المراد بذلك السلف الصالح؟ أو أن المراد بذلك سلف الحشوية الذين يقدمون كلامهم على كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم كما جاء ذلك واضحاً في كلامه الذي نقضناه قبل قليل.
فإن كان المراد بقوله السلف؛ سلف الحشوية فمالنا ولهم، فقد نابذناهم من أول الأمر بأن رجعنا إلى كتاب الله الذي كفروا به وإلى سنة رسوله صلى الله عليه وسلم التي جحدوها؛ بقولهم: (لا خير فيها).
وإن كان المراد بالسلف؛ سلف هذه الأمة الصالحين، فإن السلف قد قالوا قولنا، وقد سبق أن ذكرت( ) ذلك فيما حكيته من النص الذي جاء في "الحق الدامغ"( ): رواه الإمام الربيع رحمه الله تعالى عن الإمام علي بن أبي طالب كرم الله وجهه وابن عباس رضي الله عنهما وعزاه إلى مجاهد ومكحول وإبراهيم والزهري وسعيد بن جبير وسعيد بن المسيب ورواه ابن مردويه عن ابن عمر رضي الله عنهما من الصحابة وعن عكرمة من التابعين، ورواه عن عكرمة عبد بن حميد، كما رواه عن مجاهد وأبي صالح بإسناد صححه الحافظ ابن حجر، وقد ذكرت أن الإمام ابن جرير الطبري رواه عن مجاهد بخمسة أسانيد( ).
أما الدعوى التي ادعاها هذا الطحان وهي أن السلف كانوا يهابون تفسير مجاهد لأنه كثيراً ما كان يأخذ عن أهل الكتاب، وأنه كان تارة يرجع إلى رأيه بنفسه وتارة يفسر القرآن بما يقوله أهل الكتاب، فنحن نعترض على هذه الدعوى الفارغة الباطلة بأمرين:-
الأمر الأول:-
أن أهل الكتاب ما كانوا في يوم من الأيام ينزهون الله سبحانه وتعالى، وهل هم إلا أئمة لهؤلاء الحشوية الذين شبهوا الله بخلقه، فاليهود هم الذين قالوا لموسى عليه السلام: لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة ( ) فهل عرف ذلك الطحان أو لم يعرف؟! لعله يجحد ما في كتاب الله سبحانه وتعالى!! فالله سبحانه وتعالى أخبر عن اليهود بذلك، وبين بأنها عقيدتهم، ورد عليهم قولهم في حقه سبحانه، تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً: إن الله فقير ونحن أغنياء ( ) وقد جاء في توراتهم المحرفة أن إسرائيل صارع الإله فصرعه، فهل هؤلاء ينكرون الرؤية؟!.
وأما النصارى فقد أثبتوا حلول اللاهوت في الناسوت وقالوا: بأن الله ثالث ثلاثة. وقالوا في عيسى ابن مريم: أنه هو الله. كما نص القرآن الكريم على ذلك، فهل كان هؤلاء يجحدون رؤية الله سبحانه وتعالى حتى يقال: بأن مجاهداً أخذ هذا التفسير عنهم.
الأمر الثاني:-
أننا نجد سلف الحشوية الذين يعتز بهم الطحان، يقولون بخلاف ذلك، فيكفي هنا أن أنقل نصاً عن ابن تيمية الذي هو في مقدمة أئمة هؤلاء الحشوية الذين يعتز بهم الطحان، ويقدم كلامهم على كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم.
فابن تيمية يقول في مجموع فتاواه في ج13، ص368-369: (إذا لم تجد التفسير في القرآن ولا في السنة ولا وجدته عن الصحابة، فقد رجع كثير من الأئمة في ذلك إلى أقوال التابعين كمجاهد بن جبر، فإنه كان آية في التفسير، كما قال ابن إسحاق: حدثنا أبان بن صالح عن مجاهد قال: عرضت المصحف على ابن عباس ثلاث مرات من فاتحته إلى خاتمته، أوقفه عند كل آية منه، وأسأله عنها. وبه إلى الترمذي: حدثنا الحسين بن مهدي البصري حدثنا عبدالرزاق عن معمر عن قتادة قال: ما في القرآن آية إلا وقد سمعنا فيها شيئاً. وبه إليه قال: حدثنا ابن أبي عمر حدثنا سفيان بن عيينة عن الأعشى قال: قال مجاهد: لو كنت قرأت قراءة ابن مسعود لم أحتج أن أسأل ابن عباس عن كثير من القرآن مما سألت. وقال ابن جرير: حدثنا أبو جريج قال: حدثنا طلق بن غنام عن عثمان المكي عن أبي مليكة قال: رأيت مجاهداً يسأل ابن عباس عن تفسير القرآن ومعه ألواح قال: فيقول ابن عباس: اكتب. حتى سأله عن التفسير كله، ولهذا كان سفيان الثوري يقول: إذا جاءك التفسير عن مجاهد فحسبك به) وجاء هذا الكلام أو نحوه في أصول التفسير لابن تيمية أيضاً في ص93.
فليرجع الطحان إلى هذين المصدرين.
فهل يؤمن بما قاله ابن تيمية مع أنه يقدم كلامه على كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم أو لا يؤمن بذلك؟!!.
بضاعة كاسدة
واستدلال سخيف
ثم إن الطحان حاول أن يجتر ما قيل من قبل، وهو ذلك الاستدلال السخيف الضعيف في قول الله تعالى: كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون ( ) على ثبوت رؤيته سبحانه وتعالى في الدار الآخرة وقد سبق أن اعترضت على هذا الاستدلال بقولي في كتاب "الحق الدامغ":-
(وهو استدلال ساقط من عدة أوجه:-
أولها: أن الحجاب في الآية كناية عن الحرمان من رحمته والإبعاد عن دار كرامته، كما أن التقرب منه سبحانه وتعالى لا يكون حسياً إنما يفسر بامتثال ما أمر به من الطاعات، واجتناب مانهى عنه من المعاصي، وكذلك تقرب الله من العبد لا يعني إلا إحاطته برعايته الرحمانية وغمره باللطافة الربانية، وقد وردا معاً في الحديث القدسي الذي أخرجه مسلم من طريق أبي هريرة رضي الله عنه: ((من تقرب مني شبراً تقربت منه ذراعاً، ومن تقرب مني ذراعاً تقربت منه باعاً)) وبهذا المعنى الذي ذكرته فسر قتادة وابن أبي مليكة الحجاب في هذه الآية، رواه عنهما ابن جرير.
ثانيها: أنه استدلال بمفهوم المخالفة وهو حجة ظنية، اختلف العلماء بالأخذ بها في الأمور العملية الفرعية، فكيف بالقضايا الاعتقادية الأصلية مع أن الاعتقاد ثمرة اليقين، على أن المفهوم هنا أقرب أن يكون مفهوم لقب وهو أضعف المفاهيم بإجماع الأصوليين والفقهاء وسائر أصحاب فنون العلم، حتى أنهم عدوا من أخذ به من الفقهاء في الفروع شاذاً.
ثالثها: أنه لو جاز الاستناد إلى هذا المفهوم في إثبات رؤية المؤمنين لله يوم القيامة، لكان أحرى أن يستند إلى مفهوم يفيده التقييد بـيومئذ في إثبات رؤية الكفار له تعالى قبل ذلك اليوم، فإن الظروف لها حكم الصفات في تقييد النسبة، ومفهوم الوصف من أقوى المفاهيم كما حرره الأصوليون، قال الإمام نور الدين السالمي رضي الله عنه في "شمس الأصول":-
فالوصف والغاية الشرط معا
أقوى مفاهيم وأجلى موقعا)( )
ومن الغريب أن هؤلاء الحشوية عندما تقهرهم الحجة، ويعجزون عن دحض البرهان إنما يكتفون بالدندنة حوله، ولا يحاولون تحليل ما جاء في ذلك الاحتجاج الذي يهد عقائدهم ويقضي على ضلالاتهم، فترى أن الطحان اكتفى هنا بمجرد هذه الدندنة، وغاية ما قاله: إن الاستدلال بالمفهوم هنا يتقوى بالمنطوق، والمنطوق الذي يشير إليه هو قول الله تعالى: وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة وقد علمت ما في الاحتجاج بذلك، وقد بينا ما عجز عن دحضه أولئك الحشوية، وإنما اكتفوا بالدندنة فقط.
وقد سبق أن قلت في هذه المحاضرة بأن على الحشوية أن ينقضوا الذي قلته في تفسير تلك الآية حجة حجة، وجملة جملة، وألا يكتفوا بالدندنة حوله كما فعل الطحان.
الحشوية المشبهة
والمتشابه من القرآن الكريم
ثم إنه مما يستغرب جداً من هذا الطحان تلك الدعوة الفارغة الكاذبة إذ قال: بأن الإباضية ومن قال بقولهم أخذوا بالمتشابه وتركوا المحكم.
من الذي يأخذ بالمتشابه؟!
هل هم الإباضية الذين يردون الآيات المتشابهات إلى الآيات المحكمات عملاً بقول الله تبارك وتعالى: هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب ( ) وصفها الله تعالى بأنها "أم" والأم: الأصل، فالمتشابه يرد إلى المحكم.
أو أن الذين يأخذون بالمتشابهات ويدعون المحكمات هم الحشوية الذين شبهوا الله سبحانه وتعالى بخلقه، وأخذوا يتتبعون الآيات المتشابهات، كما قال الله سبحانه وتعالى: فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ( ) فوصفوا الله تعالى بجميع صفات خلقه، حتى أنهم جعلوه كأنه إنسان يمشي على الأرض فيه كل ما في الإنسان من الجوارح والانفعالات، حتى أن ابن القيم منهم نسب إليه النسيان( ) أخذاً بظاهر قوله تعالى: نسوا الله فنسيهم ( ) ونسى قول الله تعالى: وما كان ربك نسياً ( ) حمل النسيان على ظاهره فقال: (تأمل كيف عدل فيهم كل العدل بأن نسيهم كما نسوه) كما جاء ذلك منصوصاً عليه في كتابه "مختصر الصواعق المرسلة"( ).
خبر الآحاد
وشذوذ الحشوية عن الأمة الإسلامية
ونجد أن هذا الطحان يحاول أن يثير الشبه في منهجنا، حيث أخذ يعجب الناس من كون كتابنا "الحق الدامغ" اشتمل على كثير من الروايات التي أخرجها الشيخان البخاري ومسلم في صحيحيهما، وكنا نستدل بهذه الروايات لما ذهبنا إليه، بينما نحن لا نأخذ ببعض الروايات الموجودة في الصحيحين التي أخرجها الشيخان عندما تتعارض عند مذهبنا حسبما يرى هذا الطحان، والحقيقة أن معتقدنا -كما قلت- هو الكتاب والسنة، فنحن نستند إلى الدليل القطعي، وكل ما في القرآن الكريم هو قطعي، وأما السنة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة والسلام؛ فالسنة المتواترة قطعية الدلالة عندما تكون نصاً في الموضوع، أما عندما تحتمل أكثر من معنى فإنها تكون قطعية المتن ظنية الدلالة.
ومن ناحية أخرى لا نعتمد على الأحاديث الآحادية إلا في القضايا الفقهية، أما في القضايا الاعتقادية فإننا نرجع إلى المتواتر القطعي، ولا نتركه من أجل الخبر الآحادي الظني، وهذا الذي عليه الأمة إلا الحشوية، فإنهم يذهبون خلاف هذا الرأي.
ومما يميز به بين الحديث الصحيح الثابت إن كان آحادياً وبين غير الصحيح موافقة القرآن وعدم موافقته، ولذلك كان السلف من الصحابة والتابعين عندما يروي لهم راوٍ حديثاً يشمون منه رائحة مخالفة القرآن لا يأخذون به حتى في الأمور الظنية، كما ثبت ذلك عن عمر رضي الله عنه في قصة فاطمة بنت قيس( )، وكذلك كان مثل ذلك موقف أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها في حديث عبدالله بن عمر رضي الله عنهما: ((إن الميت ليعذب ببكاء أهله)) ومثل ذلك كان أيضاً موقف حبر الأمة عبدالله بن عباس رضي الله عنهما فإنه عارض حديث الحكم بن عمرو الغفاري الذي ينص على تحريم ذوات الناب من السباع والمخالب من الطير، بسبب ما رآه من معارضة بينه وبين آية من كتاب الله وهي قول الله سبحانه وتعالى: قل لا أجد فيما أوحي إلي محرماً على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة... ( ) الآية، كما جاء ذلك في صحيح مسلم من رواية الإمام أبي الشعثاء جابر بن زيد رضي الله عنه.
هذا هو موقف السلف، وقد نص على ذلك كثير من أئمة الحديث، وقالوا: إن الحديث يرد إذا كان معارضاً لكتاب الله.
فنحن عندما نجد أحاديث في الصحيحين لا تتفق مع النصوص القطعية الثابتة -نصوص الكتاب العزيز- نحاول جهدنا أن نجمع بين هذه الأحاديث وبين تلك النصوص بضروب من التأويل حتى لا نرد حديثاً، فإن تعذر التأويل عندئذ نترك الأخذ بالحديث ونقطع بصحة ما في الكتاب العزيز.
موقف
الحشوية من الصحيحين
ومما يعجب منه كثيراً أن نجد هؤلاء الحشوية يشنعون علينا عندما نترك بعض الروايات التي جاءت في صحيحي البخاري ومسلم، بينما هناك أكثر من تسعين عالماً ردوا روايات من أحاديث الشيخين وهم من أئمة الحديث.
ومن بين هؤلاء الذين ردوا هذه الروايات شيخا الحشوية اللذان جددا نحلتها ابن تيمية وابن القيم، فقد ردا مجموعة من الأحاديث التي جاءت في الصحيحين، كما يعلم ذلك من تتبع مؤلفاتهما.
على أنه مما يدعو إلى الاستغراب ويثير العجب العجاب أن نجد هؤلاء الحشوية يعتمدون على الحديث الآحادي الذي يخالف دلالة القرآن الكريم ويستندون إليه في إثبات العقيدة، بينما نجدهم يردون أحياناً الحديث الآحادي الذي وافق نصوص القرآن الكريم في إثبات قضية من قضايا العقيدة، ومن ذلك صنيع ابن تيمية فإنه قد أنكر أشد الإنكار على ابن حزم الذي نقل في كتابه "مراتب الإجماع":- (الإجماع على كفر من نازع أن الله سبحانه وتعالى لم يزل وحده ولا شيء معه) فقد تعجب ابن تيمية من ذلك وقال في هذه القضية: (وأعجب من ذلك حكايته الإجماع على كفر من نازع أنه سبحانه وتعالى لم يزل وحده ولا شيء غيره معه( )، ثم خلق الأشياء كما شاء، ومعلوم أن هذه العبارة ليست في كتاب الله ولا تنسب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل الذي في الصحيح عنه حديث عمران بن حصين عن النبي صلى الله عليه وسلم: ((كان الله ولا شيء قبله، وكان عرشه على الماء، وكتب في الذكر كل شيء، ثم خلق السموات والأرض)) وروي هذا الحديث في البخاري بثلاثة ألفاظ( )، روي: ((كان الله ولا شيء قبله)) وروي: ((ولا شيء غيره)) وروي: ((ولا شيء معه)) والقصة واحدة ومعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما قال واحدة من هذه الألفاظ، والآخران رويا بالمعنى، وحينئذ والذي يناسب في لفظ ما أثبت عنه في الحديث الآخر الصحيح، أنه كان يقول في دعائه: ((أنت الأول فليس قبلك شيء، وأنت الآخر فليس بعدك شيء، وأنت الظاهر فليس فوقك شيء، وأنت الباطن فليس دونك شيء)) فقوله في هذا ((أنت الأول فليس قبلك شيء)) يناسب قوله: ((كان الله ولا شيء قبله)) وقد بسط الكلام على هذا الحديث وغيره في غير هذا الموضع).
ثم قال بعد هذا الكلام بقليل: (وهذا الحديث لو كان نصاً فيما ذكر فليس هو متواتراً، فكم من حديث صحيح ومعناه فيه نزاع كثير، فكيف ومقصود الحديث غير ما ذكر...الخ)( ).
ومن المعلوم قطعاً أنه لا تعارض بين الروايات الثلاث التي ذكرها، وقد أسند هذه الروايات الثلاث كلها إلى البخاري، والموجود في البخاري روايتان: ((كان الله ولا شيء قبله)) والرواية الثانية: ((كان الله ولا شيء غيره)) وقد روى غير البخاري الرواية الثالثة كما ذكر الحافظ ابن حجر في الفتح: ((كان الله ولا شيء معه)) ( ).
ولا تعارض بين هذه الروايات الثلاث، فإن كونه سبحانه وتعالى: ((ولا شيء قبله)) لا ينافي أنه سبحانه وتعالى: ((كان ولا شيء معه)) ولا ينافي أنه سبحانه وتعالى: ((كان ولا شيء غيره))، والآيات القرآنية الصريحة الواضحة تدل دلالة قاطعة على أن سبحانه وتعالى: ((كان ولا شيء معه)) و((كان ولا شيء غيره)) ذلك لأن الآيات القرآنية ناصة نصاً ظاهراً صريحاً بأن الله سبحانه وتعالى خلق كل شيء، وأنه هو الذي يبدأ الخلق: أمن يبدأ الخلق ثم يعيده ( ) والله خالق كل شيء ( ) وخلق كل شيء فقدره تقديراً ( ) فالله سبحانه وتعالى خلق الكائن