جرح ـآلقدر مشرف قسم
عدد المساهمات : 312 تاريخ التسجيل : 15/05/2011
| موضوع: الاجتهاد ، بحث ، أبحاث الأحد مايو 22, 2011 9:45 pm | |
| الاجتهاد
الاجتهاد له نوعان: أحدهما الاجتهاد الإنشائي: وهو استنباط حكم في مسألة من المسائل، سواء كانت قديمة أم جديدة، وهذا الاجتهاد غالباً ما يكون في المسائل المستجدة التي لم يعرفها السابقون ولم تكن في أزمنتهم. الثاني: الاجتهاد الانتقائي: ويكون باختيار أحد الآراء المنقولة عن الفقهاء السابقين، ليصار إلى الإفتاء به، أو القضاء بمقتضاه، ترجيحاً له على غيره من الآراء والأقوال الأخرى. ويعتبر المجتهد الذي يمتلك ناصية نوعي الاجتهاد مجتهداً مطلقاً، بينما يعد المجتهد في إطار الانتقاء والترجيح مجتهداً منتسباً، أو مجتهداً في المذهب أو في الفتوى. إن الاجتهاد قضية مسلَّم بها، فقد اجتهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض القضايا التي سئل عن حكمها، فكان صلى الله عليه وسلم يفتي السائل إذا تأخر الوحي عن بيان الحكم. ولكن نقول: إن هذا الاجتهاد منه صلى الله عليه وسلم لا يعتبر مصدراً مستقلاً لأنه يرجع إلى الوحي في واقع الأمر، من بيان وجه عدم الصواب، أو الإقرار بالصواب. ومن أمثلة اجتهاده صلى الله عليه وسلم أنه شاور أصحابه في مسألة أسارا بدر(الحادثة مروية في صحيح مسلم في كتاب الجهاد والسير برقم (1763) فأشار أبو بكر بالفداء، وأشار عمر بالقتل، واختار النبي صلى الله عليه وسلم رأي أبي بكر. فنزلت الآيات تؤيد رأي عمر، قال تعالى: {ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة والله عزيز حكيم} سورة الأنفال: [الآية: 67]. وهناك أمثلة أخرى كثيرة كإذنه للمنافقين بالتأخر عن تبوك، وغيرها من الحوادث. ولقد أقر رسول الله صلى الله عليه وسلم قضية الاجتهاد حين أرسل معاذ بن جبل إلى اليمن قاضياً، قال له: ((كيف تصنع إن عرض لك قضاء؟ قال: أقضي بما في كتاب الله، قال: فإن لم يكن في كتاب الله؟ قال: فبسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: فإن لم يكن في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: أجتهد رأيي لا آلو، قال: فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم صدري، ثم قال: الحمد لله الذي وفق رسولَ رسولِ الله لما يرضي رسول الله صلى الله عليه وسلم)) [ أبو داود 4/18-19، رقم (3592)، والترمذي 3/616، رقم (1327)، وأحمد 5/242، رقم (21595). وهذا الحديث يُعَدُّ أصلاً في اعتبار الاجتهاد والأخذ به. ولم يقف الأمر عند هذا بل تعداه إلى أن الرسول صلى الله عليه وسلم أذن لبعض أصحابه بالاجتهاد في حضرته. من ذلك ما رواه البخاري عن أبي سعيد الخدري قال: ((نزل أهل قريظة على حكم سعد بن معاذ، فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم إلى سعد فأتى على حمار، فلما دنا من المسجد قال للأنصار: قوموا إلى سيدكم - أو خيركم - فقال: هؤلاء نزلوا على حكمك، فقال: تقتل مقاتلتهم، وتسبي ذراريهم قال: قضيت بحكم الله)) البخاري في الجهاد والمغازي، ومسلم في الجهاد برقم (1768). بقي أن يقال: إذا كان اجتهاد الرسول صلى الله عليه وسلم مرده إلى الوحي، فما فائدة الاجتهاد والإذن به؟ الواقع إن الشريعة الإسلامية خاتمة الشرائع، وكونها خاتمة، يعني أنها دين الناس إلى يوم القيامة، وقد قال الله تعالى: {اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا} سورة المائدة [ الآية: 3 ]، وقال عز من قائل: {ما فرطنا في الكتاب من شيء} سورة الأنعام [ الآية: 38 ]. ومعلوم أن هذا لم يكن إلا في نطاق قواعد الدين، ونصوصه الإجمالية، فهي كلية شاملة ؛ لا نقص فيها ولا تفريط، تامة محكمة. أما التفاصيل والجزئيات، فأمرها متروك للمجتهدين، فالنصوص محدودة، والأحداث والوقائع غير محدودة ... لكل عصر وزمان قضاياه وأحواله، فلو لم يكن هناك اجتهاد، لاستنباط الأحكام المستجدة لوقفت الشريعة الإسلامية عن أداء مهمتها في التشريع والتقنين، وأصبحت غير صالحة لاستيعاب مستجدات الأحداث، وإثبات الأحكام اللازمة لضبط أصول هذه الشريعة، ودوامها مادام الزمان. وإذا كان الاجتهاد أمراً مقرراً في الإسلام، وهو الذي يمثل قضية احترام العقل في الإسلام، فالأمر الذي لم يقرر الإسلام ولم يقبله العلماء، إنما هو التقليد. فنحن إذا نظرنا إلى أصحاب المذاهب الفقهية المشهورة، نجد أنهم لم يطلبوا ولم يقرّوا أحداً على تقليدهم بما وصلوا إليه من أحكام، فلا أبو حنيفة ولا مالك ولا الشافعي ولا أحمد - رحمهم الله - ولا غيرهم من العلماء أمروا بذلك بل كانوا يقولون عن أسلافهم: هم رجال، ونحن رجال، ولنا أن نجتهد كما اجتهدوا، وكان الإمام أحمد يوصي أصحابه: لا تقلدوني ولا مالكاً ولا الشافعي ولا الأوزاعي، وخذوا من حيث أخذوا. لقد كان باب الاجتهاد مفتوحاً على مصراعيه في عهد الصحابة والتابعين وتابعيهم، وعدة أجيال أخرى بعدهم. لكن فريقاً من العلماء المتأخرين، أوهموا أنفسهم أولاً، ثم أوهموا الناس ثانياً أن باب الاجتهاد قد أغلق نهائياً، وما هذه المقولة إلا صدى لما ردده المسلمون قبل ألف عام من الآن... والحقيقة أن هذه المقولة والانسياق وراءها، كان أحد المعوقات لحركة الفقه الإسلامي، الذي كان من الواجب أن يستوعب كل الوقائع والمستجدات في حياة الأمة الإسلامية. وإن الذي يقول بانسداد باب الاجتهاد وإغلاقه، يحكم على الإسلام بالإعدام ؛ من حيث إنه دين جامد، لا يساير الحياة ولا يجاريها، وليس لديه حلول لمشاكلها المتعددة ، والمتنامية والمتزايدة، زمناً بعد زمن. ولقد حمل ابن القيم - رحمه الله - في أعلام الموقعين، على التقليد بغير دليل حملة قاسية، وكذلك فعل الإمام الشوكاني - رحمه الله - وغيرهما من الأئمة الفقهاء. قال الشيخ محمد عبده - رحمه الله - في تعليقاته على "العقائد العضدية": (ومن المعلوم أن من سلك طريق الاجتهاد، ولم يعوّل على التقليد في الاعتقاد، لم تجب عصمته، فهو معرض للخطأ، ولكن خطأه عند الله واقع موقع القبول، حيث كانت غايته من سيره، ومقصده من تمحيص نظره، أن يصل إلى الحق ويدرك اليقين). وهذا الكلام مستفاد من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران، وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر)) أخرجه البخاري في الاعتصام، الباب الحادي والعشرون، ومسلم في الأقضية برقم (1716). والاجتهاد لابد وأن يثمر الاختلاف في الرأي، ولا مانع من ذلك. إذ إن تعدد الآراء يوصل إلى الحق، ويفتح أبواب اليسر والتسهيل على الناس. ومن المُسَلَّمَات في تاريخ التشريع الإسلامي أن الخلاف في الرأي كان قائماً في عهد الصحابة الكرام - رضوان الله عليهم - فما انقضى عصر النبوة، حتى تفرق أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في البلاد يحملون ما أخذوه من العلم من الكتاب والسنة، فسئلوا فأجاب كل واحد حسب ما حفظه واستنبطه، فعند ذلك وقع الاختلاف في الرأي بينهم في بعض المسائل. وإزاء اختلاف مذاهب الصحابة - رضي الله عنهم - وجدت مذاهب مختلفة أيضاً للتابعين، ووجد في كل بلد إمام مجتهد: مثل سعيد بن المسيِّب في المدينة المنورة، وعطاء بن أبي رباح في مكة، والشَّعْبي في الكوفة، والحسن البصري في البصرة، وطاووس في اليمن.. وغيرهم... واختلف الفقهاء من بعدهم، فمنهم من أخذ بالرأي، ومنهم من أخذ بالرواية، وقامت على هذه الأصول مدارس فقهية كثيرة. وإذا كان من المُسَلَّمات وقوع الخلاف في الرأي بين سائر الأئمة المجتهدين من أصحاب المذاهب، في العديد من المسائل الفقهية، وطرق الاستدلال والاستنباط، فمما لا جدال فيه أيضاً أن أتباع هذه المذاهب الفقهية لم يسيروا فيها جامدين، بل كانوا يعملون على إحيائها وتجديدها في كل عصر من العصور بما جد من أفكار وأمور ويفتون فيما يقع من الحوادث بما يتفق مع الحال، وأحياناً كانوا يخالفون مذهب إمامهم، ويقولون: هذا اختلاف زمان لا اختلاف برهان. لهذا فإن التجديد واجب على أئمة المسلمين وعلمائهم، والتجديد ليس أمراً يُنشأ، ولكنه يكتشف، لأن الشريعة الغرَّاء فيها أَلَقُها الدائم، ومنها ينبع التجديد فيها، وما مهمة المجددين المجتهدين إلا اكتشاف هذا التجدد، وهم الذين بَشَّرَ بهم نبي هذه الأمة صلى الله عليه وسلم فقد قال: ((إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مئة سنة من يجدد لها دينها)) أبو داود والطبراني في الأوسط عن أبي هريرة، والحاكم من حديث ابن وهب. كشف الخفاء ص243، رقم (740). والتجديد لا يمكن أن يعني بحال تغيير نصوص القرآن أو السنة، بل يعني تغيير الفهم لبعض النصوص التي تحتمل ذلك بما يناسب الحال المعاصر للمسلمين. وللأسف فإن بعض العلماء تعودوا ألا ينظروا إلى القرآن والسنة إلا من خلال واجتهادات السلف في الفروع، على أنها الفاتح لمغاليق الفهم الصحيح من القرآن والسنة. والحقيقة المطلوبة هي تدبر القرآن الكريم، وتفهم السنة النبوية بعمق، ودراسة تراثنا الفقهي الكبير، لفهم الحلول المناسبة لواقع اليوم الذي أصبح مختلفاً اختلافاً كبيراً عن واقع الأمس البعيد. وإذا كان التجديد في الفقه والفهم مطلوباً، فإن مسؤولية ذلك واقعة على عموم المسلمين، ليكون من بينهم طائفة من الأئمة المجتهدين، والفقهاء المخلصين، لينهضوا بشأن الأمة ويُبعدوا عن النصوص تحريفَ الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين. أيها الإخوة: من المواقف الاجتهادية الواضحة في تاريخ الصحابي الجليل عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه منع المؤلفة قلوبهم سهمهم من الزكاة، وقال لهم: ((لا حاجة لنا بكم، فقد أعز الله الإسلام، وأغنى عنكم، فإن أسلمتم، وإلا فالسيف بيننا وبينكم)). وقد أثار هذا الموقف الاجتهادي من عمر رضي الله عنه تعليقات وتساؤلات كثيرة، واختلف العلماء فيه بين ناقد ومؤيد في الماضي والحاضر انظر كتاب ( نظرات في اجتهادات عمر الفاروق ) للشيخ محمد محمد المدني. فقال البعض: إن عمر بن الخطاب أول من سار إلى التشريع العام المباشر، فاعتبر النصوص التشريعية معلولة بعلل مقصودة، فإذا زالت منها هذه العلل، اقتضى ذلك زوال حكمها. وظن البعض: أن عمر نسخ نصوصاً من القرآن، منها سهم المؤلفة قلوبهم، الذي فرضه الله لهم بنص قاطع في سورة التوبة. وقال البعض: إن ذلك من قبيل تعليق النص أو إيقافه لمصلحة عارضة، فمتى زالت عاد العمل بالنص... وَفتْحُ باب الاجتهاد في هذا تمكين للشريعة أن تكون مطواعة مرنة. ومن الناس من يسلك مسلكاً آخر في تخريج صنيع عمر فيقول: إن عمر لم يخالف الآية، لأن الله تعالى إنما جعل الأصناف الثمانية في الأمة إنما هي لحصر وبيان المصارف الثمانية التي تدفع فيها الزكاة دون غيرها، لا على سبيل الإلزام أن تصرف على الأصناف الثمانية. وعلى هذا فمن وضع زكاته كلها في صنف واحد من الثمانية برئت ذمته، كما تبرأ ذمة من وزعها على الثمانية، وهذا مما أجمع عليه العلماء. هذه صورة عرضتها للخلاف في الرأي والاجتهاد، لبيان مرونة الاستنباط من النص، وحركة الفكر في الإسلام. لذلك على العلماء الذين تأهلوا بشروط الاجتهاد والاستنباط أن يعملوا بهذا الاتجاه، لبيان شمولية الرسالة الإسلامية وواقعيتها... وهنا لابد لنا من بيان مسألة مهمة في موضوع الاجتهاد وهي: أن الصحابة الكرام، ومن بعدهم من الفقهاء والعلماء المجتهدين، الذين أخذوا بالرأي، وبنوا الحكم عليه، ما كان منهم أحد يقطع بأن ما وصل إليه هو حكم الله، وإنما كان يقول: هذا رأيي فإن كان صواباً فمن الله، وإن يكن خطأً فمني. حتى إن كاتب عمر أراد أن يكتب: " هذا ما رأى الله ورأى عمر ...، فقال له عمر رضي الله عنه بئسما قلت، بل قل: هذا ما رأى عمر فإن يكن صواباً فمن الله، وإن يكن خطأ فمن عمر. وشيء آخر أيضاً: أنهم ما كانوا يلزمون أحداً بالأخذ بآرائهم ما دامت اجتهاداً لا نص فيها، فلكلٍ رأيُه واجتهادُه. أورد ابن القيم في أعلام الموقعين دليلاً على ذلك، ما روي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه لقي رجلاً فقال: ما صنعت؟ قال: قضى عليٌ وزيدٌ بكذا، قال: لو كنت أنا لقضيت بكذا، قال فما منعك والأمر إليك، قال: لو كنت أردُّكَ إلى كتاب الله أو إلى سنة نبيه صلى الله عليه وسلم لفعلت، ولكني أردّك إلى رأيٍ، والرأي ُمشترك . فلم ينقض ما قال علي وزيد، وهذا ما يعبر عنه باحترام الرأي الآخر، فالاختلاف بالرأي نتيجة حتمية للاجتهاد، وهو دليل حيوية الفكر الإسلامي، كما أنه دليل على إعمال الفقهاء عقولهم، وشدة حرصهم على الوصول إلى الحق والصواب، وإنما كان الخلاف أمراً طبيعياً للاجتهاد بالرأي، لأن العقول ليست في مستوى واحد، كذلك مدارك الفقهاء ليست على وتيرة واحدة، وكذلك عمق الملكة الفقهية ليست واحدة في الجميع، وعلى هذا فلا يجوز أن تضيق النفس لاختلاف الفقهاء، بل نعد ذلك ثروة فقهية تشريعية تركها السلف للخلف، على أن هذا القول لا يعني أبداً أننا نحرص على الخلافات، إنما نريد أن نبيّن أن الخلاف أمر طبيعي في كل اجتهاد، وأنه بجوهره وجه من وجوه التشريع، وتنزيل الأحكام الملائمة على الوقائع. فإذا عرفنا هذه الحقيقة نجونا من داء التعصب لأقوال بعض المجتهدين دون بعض بلا دليل أو برهان، فالشريعة الإسلامية أوسع من أن يحيط بها مذهب مجتهد معين، سواء أكان هذا المجتهد صحابياً أم غير صحابي. وأخيراً نستطيع أن نقرر أن الخلاف بين الفقهاء المسلمين في الرأي كان نتيجة فكر حضاري متقدم وثمرة جهد عقلي واسع، وأن هذا الخلاف كان ضرورة اقتضتها دوافع المرونة والخلود لشريعة الله تبارك وتعالى. كما نستطيع أن نقرر أن اختلاف الفقهاء كان رحمة للمسلمين، وقد ذكر الإمام الشاطبي رحمه الله أن عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه كان يسره اختلاف الصحابة رضي الله عنه في الفروع ويقول: ما أحب أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يختلفون، لأنه لو كان قولاً واحداً لكان الناس في ضيق، وأنهم كانوا أئمة يقتدى بهم الاعتصام للإمام الشاطبي. ويقول الشيخ أبو زهرة - رحمه الله - ( إذا كان الافتراق حول العقائد في جملته شراً، فإنه يجب أن نقرر أن الاختلاف الفقهي في غير ما جاء به نص من الكتاب والسنة لم يكن شراً، ولم يكن افتراقاً بل كان خلافاً في النظر، وكان يستعين كل فقيه بأحسن ما وصل إليه الفقيه الآخر، ويوافقه أو يخالفه)تاريخ المذاهب الإسلامية للشيخ أبو زهرة. أيها الإخوة: إن من سمات العصر تعدد الوقائع، وازدياد الحوادث والقضايا، التي لم يسبق أن وردت بخصوصها حلول قاطعة، وإجابات وافية كافية - مثل: الشؤون الاقتصادية: من معاملات البنوك والمصارف، ومصير فوائد الأموال المودعة، والاعتمادات والحسابات الجارية، وكذلك مشاكل عقود التأمين، وأمور الزواج، ومشاكل الطلاق الثلاث، والطلاق المُعَلَّق وقضايا المسلمين والمسلمات في البلاد الأجنبية وأحوالهم... هذا من جهة، ومن جهة أخرى، فقد ظهرت بوادر الصحوة الإسلامية، والتي تتجلى في عزم المسلمين على الرجوع إلى إسلام القرآن والسنة، لتحكيمهما في كل ما يستجد من أحداث ووقائع، مع الاستفادة من كل الحقائق التي تفيد الإنسان، والتي هي محصلة المسيرة التاريخية للحضارة الإنسانية المعاصرة. لهذا كله فقد أدركت البشرية اليوم أن الشريعة الإسلامية هي الدواء الناجع لكل أمراضها ومشاكلها، وهي في بحثها عن المنقذ لها مما حاق بها من مشكلات إنما تبحث عن الإسلام دون أن تعرف حقيقته. ومع أن الوحي الإلهي هو أساس التشريع الإسلامي وينبوعه الخصب، فإن الإسلام لم يترك العقل البشري هملاً، بل فتح الباب لإعمال هذا العقل في البحث والتخطيط واستنباط الأحكام من مصادرها، ووضع الحلول لكل القضايا المطروحة على الساحة الإنسانية، لأن الإسلام يحوي نظرة شمولية ترى أن البشر كلهم عيال الله وأحبهم إلى الله أنفعهم لعياله. ولقد جعل الله تبارك وتعالى مناط التكليف، وهو مصدر التكريم لبني آدم، وأكثر ما يظهر عمل العقل البشري، إنما هو في نطاق التعرف على أحكام الله في مجالين مهمين: الأول: معرفة المقاصد والأهداف من مضمون النصوص الشرعية. الثاني: استنباط واستخراج أحكام القضايا المستجدة مما لم يرد في حكمها نص شرعي صريح، ومعرفة الأحكام واستنباطها تارة يكون بالقياس، وأخرى بالاجتهاد الجماعي، وثالثة بالرأي الاجتهادي، وجميع صنوف هذه المعرفة تعتبر اجتهاداً يحث عليه الشرع. ولهذا فإن الاجتهاد يعتبر حركة علمية بنائه في شرعنا، كما يعتبر مرتكزاً مهماً للحضارة الإسلامية، وسبيلاً واضحاً لتحقيق الغاية من البيان الإلهي، وإثبات عبودية الإنسان لله تبارك وتعالى، وأيضاً يُعَدُّ الاجتهاد طريقاً من طرق الحفاظ على خلود هذا الدين وصلاحيته للتطبيق في كل زمان ومكان. يقول الإمام الشافعي - رحمه الله - في كتابه الرسالة: (كل ما نزل بمسلم ففيه حكم لازم، أو على سبيل الحق فيه دلالة موجودة، وعليه فإذا كان فيه بعينه حكم لزم إتباعه، وإذا لم يكن فيه حكم بعينه، طلب الدلالة على سبيل الحق فيه بالاجتهاد). وكذلك جعل القرآن الكريم منزلة سامية للعلماء وأهل الذكر والمعرفة والاستنباط، وأمر الناس بالرجوع إليهم، فيما يحتاجون إليه من أحكام، قال الله تعالى {ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم ولولا فضل الله عليكم ورحمته لاتبعتم الشيطان إلا قليلاً}سورة النساء: [ الآية: 83 ]. ختاماً... يمكن أن نصل إلى النتائج التالية: 1- الاجتهادات الفقهية القديمة، كنوز حضارية تدل على حيوية الفكر الإسلامي، يجب الحفاظ عليها كتراث عظيم، لكن لا تعتبر مُسَلَّمات، بل يستفاد منها في إنشاء الأحكام للوقائع المعاصرة. 2- التأكيد على أن الأحكام الثابتة بالنصوص القطعية لا مساغ للاجتهاد فيها، ولا مراء في ثباتها تحت أي ظرف من الظروف. 3- التأكيد على أن باب الاجتهاد المطلق مفتوح لمن تتوافر فيه الأهلية اللازمة. 4- إن شروط المجتهد التي طلبها العلماء، لم يرد بها نص شرعي، وإنما عرفت من طبيعة الأشياء، إذ بعد قراءة سير الرجال من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين تصدوا للإفتاء والاجتهاد،وجد العلماء أن من الضروري أن يتمتع المجتهد بشروط ذاتية وأخرى علمية مكتسبة. 5- لابد أن تتوافر في المجتهد صفات التقوى والعدالة ومعرفة مقاصد الشرع، ومعرفة الناس والحياة، وإلمامه بثقافة عصره... 6- تجنباً للوقوع في الخطأ والزلل في حالة الاجتهاد الفردي، وخشية وجود خلل في شروط قبول الاجتهاد أرى ضرورة التوجه إلى الاجتهاد الجماعي بلقاء أهل العلم مع وجود أصحاب الاختصاص في المسائل المعروضة. 7- الاجتهاد ضرورة حتمية في التفاصيل والجزئيات، والأحداث والوقائع اللا متناهية، حتى لا تقف الشريعة عند أداء مهمتها في التشريع والتقنين، وحتى تكون صالحة لاستيعاب مستجدات الأحداث. 8- يجب أن يشمل الاجتهاد أمور الدين والدنيا، وعلينا أن نوجه أعظم طاقاتنا الفكرية والإبداعية لبناء عزة وازدهار أمتنا الإسلامية. 9- المطلوب من العلماء أن لا يكونوا مقلدين جامدين، متقوقعين في أطر مذاهبهم، بل ينطلقوا ساعين خلف الأدلة، ضمن إطار الشريعة الواسع. 10- المطلوب من المجتهدين أن يحملوا لواء التجديد لا في تغيير النصوص بل في طريقة فهمها بما يناسب الحال المعاصر للمسلمين. 11- التحلي بآداب الاختلاف وحرية الرأي. 12- الاجتهاد في المسائل الفرعية ليس ملزماً، بل هو توسعة على الناس، والاجتهاد لا يُنْقَضُ بالاجتهاد. 13- أخيراً: كثر الحديث عن أهمية الاجتهاد المعاصر، وأرى أنه لابد من لفت النظر إلى أمر آخر، هو أهمية الربط بين النظرية والتطبيق. فالاجتهادات أقوال نظرية، تحتاج إلى تنفيذ وتحقيق في واقع حياة المسلمين، وهذا يحتاج إلى توعية شاملة للأمة، بغرس الإيمان في قلوب الناس، وتوجيههم إلى معرفة الله ومحبته، وإرشادهم إلى الهدف الأصلي، والغاية الكبرى من وجودهم ألا وهي عبادة الله تعالى. ومن هنا نتوجه إلى حكام المسلمين بضرورة الالتزام بمنهج الله وأهمية العمل بنصوص الشريعة، واعتماد الاجتهادات الفقهية المتنورة، لتكون هي الحلول لمشاكل المسلمين، بدلاً من الاعتماد المطلق على القوانين الغربية، الغريبة عن واقعنا، والبعيدة عن شرع ربنا. كما نوجه رسالة إلى القائمين على شؤون الإعلام بكل أشكاله، المقروء والمسموع والمرئي، لتطهيره من الرجس الحاصل، والارتقاء به ليكون هادفاً إلى تحقيق خير الإنسان وسعادته، من خلال بث القيم الأخلاقية، ونشر الفضائل، وغرس الإيمان في أبناء الأمة وتأهيلهم لتحمل أعباء النهوض بها نحو أمجادها. إن أمتنا أمة حيَّة من طراز رفيع، فقد عانت عبر تاريخها الطويل لكنها لم تفقد قدرتها على التجدد، والتمرد على الصعاب، وكان الاجتهاد الفكري فيها ليس في مواجهة المشكلات فقط بل في تطلب الجديد والمتقدم، والاجتهاد في تطلب الجديد لم يكن يوماً لدى فقهاء الأمة ومفكريها سعياً عبثياً من أجل الإغراب أو مخالفة المألوف بل كان من أجل البناء وتجاوز المشكلات وبلوغ الأهداف. فالاجتهاد هو التجربة التاريخية لأمتنا في مجال النهوض عن طريق إعمال الفكر في كافة المجالات التي تتعلق بمصالح الأمة في شؤون الدين والدنيا. نسأل الله تعالى أن يحقق لأمتنا من خلال اجتهاد علمائها انطلاقة فكرية وعملية واسعة نحو عزتها وتقدمها وازدهارها. | |
|