الدول الاشتراكية
مقدمة
هناك اسطورة واسعة الانتشار تقول ان الماركسية صعبة.
وهى اسطورة يتم الدعاية لها من قبل اعداء الاشتراكية - مثلا هارولد ويلسون زعيم حزب العمال البريطانى السابق الذى يفاخر بانه لم يستطع ابدا ان يقرا اكثر من الصفحة الاولى من كتاب كارل ماركس "راس المال".
وهى ايضا اسطورة يشجعها صنف خاص من الاكاديميين الذين يعلنون عن انفسهم كماركسيين:
فهم يزرعون عمدا جمل مبهمة وتعبيرات غامضة من اجل اعطاء الانطباع انهم يمتلكون معرفة خاصة لايمتلكها الاخرون.
لذلك لايثير الدهشة ان العديد من الاشتراكيين الذين يعملون 40 ساعة فى الاسبوع فى المصانع والمناجم او المكاتب ياخذونه امرا مسلما به ان الماركسية شىء لايمكن ان يكون لديهم الوقت او الفرصة لفهمه.
في الحقيقة ان الافكار الرئيسية للماركسية بسيطة للغاية.
فهى تفسر المجتمع الذى نعيش فيه كما لا تستطيع اى منظومة اخرى من الافكار. وهى تعطى معنى لعالم خربته الازمات، لما فيه من فقر في وسط الوفرة، لانقلاباته وديكتاتورياته العسكرية، و للطريقة التى يمكن بها ان ترسل بعها الاختراعات الرائعة الملايين لطوابير الإعانات والصدقات، للديمقراطيات التى تمول من يقومون بالمذابح وللدول الاشتراكية التى تهدد شعوب بعضها بالأسلحة النووية.
في نفس الوقت، فان مفكري النظام الذين يسخرون من الأفكار الماركسية يطاردون بعضهم البعض في لعبة التخصص الأعمى المجنونة بشكل لا يفسرون ولا يشرحون به شيئا.
إلا انه على الرغم من أن الماركسية ليست صعبة تواجه من يقرا كتابات ماركس للمرة الأولى مشكلة. فكل ما كتبه ماركس كان منذ اكثر من قرن مضى.
فاستخدم لغة عصره، بشكل كامل بالرجوع للأفراد والأحداث التي كانت وقتها معروفة للجميع بينما الآن لا يعرفها إلا المؤرخون المتخصصون.
واتذكر حيرتى الشخصية - عندما كنت بالمدرسة - عندما حاولت قراءة كراس ماركس الثامن عشر من بروميير لويس بونابرت. فلم اكن اعرف ماذا تعنى بروميير او من يكون بونابرت. وما اكثر الاشتراكيين الذين تخلوا عن محاولاتهم للامساك بالماركسية بعد مثل هذه التجربة!!
هذا هو المبرر وراء هذا الكتاب القصير.
فهو يسعى لتقديم مقدمة للافكار الماركسية تجعل من السهل على الاشتراكيين ان يتابعوا ما كان ماركس بصدده وان يفهموا تطور الماركسية من وقتها على يد فريدريك انجلز وروزا لوكسمبورج وفلاديمير لينين وليون تروتسكى و جمهرة كاملة من المفكرين الاقل شانا.
اغلب هذا الكتيب ظهر لاول مرة على شكل سلسلة مقالات فى جريدة "العامل الاشتراكى" بعنوان "الماركسية مبسطة". لكننى اضفت مادة جوهرية حديثة.
قليل منها جئت به بالجملة من محاولتين سابقتين لتقديم عرض مبسط للافكار الماركسية: كتاب دنكان هالاس " معنى الماركسية" و " السلسلة التعليمية الماركسية" لفرع حزب العمال الاشتراكيين البريطانى فى نورويتش.
نقطة اخيرة، هى ان ضيق المساحة منعنى من التعرض لبعض الاجزاء الهامة من التحليل الماركسى للعالم المعاصر. ويحتوى ملحق هذا الكتيب على مراجع للمزيد من القراءة حولها.
كريس هارمان
الفصل الثالث عشر:
الاشتراكية والحرب
اتسم القرن الحالي بأنه قرن الحروب.
لقد قتل عشرة ملايين شخص في الحرب العالمية الأولى، 55 مليون في الحرب العالمية الثانية، و2 مليون في الحرب في الهند الصينية.
أما الآن، فإن القوتين النوويتين العظميين في العالم، وهما أمريكا وروسيا، تمتلكان وسائل تدمير الجنس البشري بكامله عدة مرات.
إن تفسير هذا الرعب يعتبر من الأمور العسيرة بالنسبة لأولئك الذين ينظرون إلى المجتمع القائم كأمر مسلّم به.
فهؤلاء مدفوعون لاستنتاج أن هناك دافع فطري أو غريزي في البشر يقودهم للاستمتاع بالمذابح الجماعية.
ولكن الحقيقة هي أن الجنس البشري لم يعرف الحرب دائما.
لقد لاحظ جوردون شيلد عن أوروبا في العصر الحجري ما يلي:
"يبدو أن أهل الدانوب الأوائل كانوا قوما مسالمين، فأسلحة الحرب بالمقارنة بأدوات الصيادين لم تكن موجودة في مقابرهم.
إن قراهم افتقدت للدفاعات العسكرية."
ولكن، "في المراحل الأخيرة للعصر الحجري الحديث، أصبحت المعدات الحربية هي الأكثر ظهورا…"
إن الحرب لا تنتج عن عدوانية بشرية فطرية، بل هي نتيجة انقسام المجتمع إلى طبقات. فمنذ 5000 أو 10000 سنة مضت وعندما ظهرت طبقة من أصحاب الأملاك لأول مرة، كان عليها العثور على وسيلة للدفاع عن ثروتها.
بدأت تلك الفئة في إنشاء قوات مسلحة ثم دولة أضحت منفصلة عن باقي المجتمع؛ وفيما بعد، أصبح نهب مجتمعات أخرى وسيلة ثمينة للمزيد من تراكم الثروة.
عني انقسام المجتمع إلى طبقات أن الحرب أصبحت مظهرا دائما للحياة الإنسانية.
لم تستطع الطبقات الحاكمة المالكة للعبيد في اليونان القديمة وروما البقاء بدون حروب مستمرة والتي كانت توفر المزيد من العبيد.
وكان على ملاك الأراضي الإقطاعيين في العصور الوسطى أن يتسلحوا بقوة حتى يخضعوا عبيد الأرض المحليين، وأيضا ليحموا غنائمهم من ملاك الأراضي الإقطاعيين الآخرين.
وعندما بدأت الطبقات الرأسمالية الحاكمة الأولى في الظهور منذ 300 أو 400 سنة مضت، اضطرت هي أيضا اللجوء للحرب باستمرار.
لقد كان عليهم خوض حروب مريرة في القرون 16، 17، 18 و19 من أجل إرساء سيادتهم على بقايا الحكام الإقطاعيين القدماء.
نجد مثلا أن أكثر الدول الرأسمالية نجاحا مثل بريطانيا استخدمت الحرب لتوسيع ثروتها والوصول إلى ما وراء البحار، ونهب الهند وأيرلندا ونقل ملايين البشر كعبيد من أفريقيا إلى أمريكا، وهي في كل ذلك كانت تحول العالم كله إلى مصدر للنهب لنفسها.
وهكذا، فلقد بنى المجتمع الرأسمالي نفسه عن طريق الحرب.
فلا عجب إذن أن كل أولئك الذين عاشوا فيه آمنوا بأن الحرب هي شيء "حتمي" و"عادل" في نفس الوقت.
ومع ذلك، فالرأسمالية لا يمكن أبدا أن ترتكز بالكامل على الحرب.
لقد أتت معظم ثروتها من خلال استغلال العمال في المصانع والمناجم، وكان هذا شيئا يتعطل أحيانا عندما ينشب صراع داخل "البلد الأم" ذاته.
لقد أرادت كل طبقة رأسمالية وطنية السلام في بلدها بينما تشنّ الحرب في الخارج.
ولذلك، فبينما شجعت تلك الطبقات التمسك بـ"الفضائل العسكرية"، هاجمت أيضا وبضراوة "العنف".
إن أيديولوجية الرأسمالية تمزج بطريقة متناقضة تماما وبإفراط العبارات العسكرية والسلمية.
أما في القرن الحالي، فقد أصبحت الاستعدادات للحرب أكثر أهمية للنظام من أي وقت مضى. كان الإنتاج الرأسمالي في القرن التاسع عشر مرتكزا على الشركات الصغيرة التي تنافس بعضها البعض، كما كانت الدولة مجرد مؤسسة صغيرة تنظم علاقات تلك الشركات ببعضها وبينها وعمالها.
ولكن في القرن الحالي، ابتلعت الشركات الكبيرة معظم الشركات الصغيرة قاضية بذلك على المنافسة داخل كل دولة. فالمنافسة بدأت تتجه نحو العالمية أكثر وأكثر بين الشركات العملاقة في دول مختلفة.
لا توجد دولة رأسمالية عالمية لتنظيم هذه المنافسة.
ولكن بدلا من ذلك، فإن كل دولة على حدة تبذل كل الضغوط الممكنة لمساعدة طبقة الرأسماليين بها على الحصول على ميزات ليتفوقوا على منافسيهم الأجانب.
فصراع الحياة والموت بين الرأسماليين المختلفين يمكن أن يصبح صراعا للحياة والموت بين دول مختلفة، كل بترسانتها الضخمة من الأسلحة المدمرة.
أدى هذا الصراع مرتين إلى حروب عالمية.
كانت الحربان العالميتان الأولى والثانية حروبا إمبريالية نتجتا عن خلافات بين تحالفات دول رأسمالية من أجل السيطرة على العالم.
ثم جاءت الحرب الباردة كاستكمال لهذا الصراع حيث اصطفت فيها أقوى الدول الرأسمالية ضد بعضها البعض في الناتو وحلف وارسو.
بالإضافة إلى هذا الصراع العالمي، احتدمت العديد من الحروب الساخنة في أجزاء مختلفة من العالم.
عادة كانت هذه صراعات بين دول رأسمالية مختلفة حول مسألة من يجب أن يسيطر على منطقة معينة، مثل الحرب بين العراق وإيران التي اندلعت في عام 1980.
ولقد أذكت كل القوى الرئيسية نيران الحرب ببيعها أكثر التكنولوجيا العسكرية تعقيدا لدول العالم الثالث.
إن هناك الكثير من الناس الذين يقبلون باقي خصائص النظام الرأسمالي ممن لا تعجبهم هذه الحقيقة الكئيبة.
إنهم يريدون بقاء الرأسمالية ولكن ليس الحرب؛ ولذلك، فهم يحاولون إيجاد بدائل داخل النظام ذاته.فعلى سبيل المثال، هناك أولئك الذين يعتقدون أن الأمم المتحدة تستطيع منع الحرب.
لكن الأمم المتحدة هي مجرد ساحة للصراع تلتقي فيها الدول المختلفة التي لديها الدافع للحرب.
فهناك، تقارن تلك الدول فيما بينها بين ما تملكه من قوة مثلهم في ذلك مثل الملاكمين الذين يتبارون قبل المباراة. وإذا كانت هناك دولة أو تحالف ما أقوى من الأخرى، فكلاهما سيرى لا جدوى حرب نتيجتها معروفة مقدما.
ولكن إذا كان هناك أي شك في النتيجة، فهم يعرفون طريقة واحدة لتسوية القضية - ألا وهي الذهاب للحرب.
لقد كان ذلك صحيحا بالنسبة للتحالفين النوويين العظميين وهما الناتو وحلف وارسو.
وعلى الرغم من أن الغرب كان لديه التفوق العسكري على الكتلة الشرقية، إلا أن الفجوة بينهما لم تكن كبيرة بالنسبة للروس للدرجة التي تجعلهم يعتقدون أنهم في وضع بائس أو لا أمل فيه.
ولذلك، فإن كلا من واشنطن وموسكو قد خططا للدخول في حرب نووية وكسبها بالرغم من وضوح حقيقة أن نشوب حرب عالمية ثالثة سوف تأتي على معظم الجنس البشري.
لقد انتهت الحرب الباردة مع اندلاع الاضطراب السياسي الذي وقع في أوروبا الشرقية في عام 1989 وانهيار الاتحاد السوفيتي وتفككه إلى جمهورياته الصغيرة في 1991.
أصبح هناك الكثير من الكلام بعد ذلك حول "نظام عالمي جديد" و "أرباح السلام".
في مقابل تلك الصورة، وعلى الرغم من كل هذا الكلام، رأينا تتابعاً لحروب بربرية - حرب الغرب ضد العراق والتي كانت حليفتهم السابقة، الحرب بين أذربيجان وأرمينيا في الاتحاد السوفيتي السابق، الحروب الأهلية المروعة في الصومال ويوغوسلافيا السابقة.
ورأينا أيضا أنه ما أن تُحلّ عداوة عسكرية بين قوى رأسمالية حتى تأخذ غيرها مكانها.
ففي كل مكان تعرف الطبقات الحاكمة أن الحرب هي وسيلة لزيادة تأثيرها ووضع غشاء الوطنية على عيون العمال والفلاحين.
من الممكن إذن أن تشمئز من الحرب وتخشاها بدون معارضة المجتمع الرأسمالي، ولكنك لا تستطيع أن تضع نهاية لها.
فالحرب هي النتيجة الحتمية لانقسام المجتمع لطبقات، وتهديدها لن ينتهي أبدا باستجداء الحكام الحاليين لصنع السلام.
يجب أن تنتزع الأسلحة من أيديهم عن طريق حركة تقاتل بها المجتمع الطبقي وتخلعه من جذوره مرة وإلى الأبد.
لم تفهم حركات السلام التي ظهرت في أوروبا وأمريكا الشمالية في نهاية السبعينات هذه الحقيقة. لقد حاربت تلك الحركات من أجل وقف إنتاج صواريخ كروز وبرشينج كما عارضت نزع الأسلحة من جانب واحد وحاربت من أجل التجميد النووي.
لكنهم في نفس الوقت اعتقدوا أن الحرب من أجل السلام يمكن أن تنجح بمعزل عن الصراع بين الرأسمالية والعمال.
ولذلك، فشلت هذه الحركات في تعبئة القوة الوحيدة القادرة على إيقاف الدافع تجاه الحرب:
الطبقة العاملة.
الثورة الاشتراكية فقط هي التي تستطيع إنهاء أهوال الحرب.
الفصل الثاني:
فهم التاريخ
إن الأفكار المجردة لوحدها لا يمكنها أن تغير المجتمع. لقد كانت هذه الحقيقة من أهم الخلاصات التي توصل إليها ماركس.
ومثل عدد من المفكرين الذين سبقوه، أصر ماركس على أنه من أجل فهم التاريخ يجب أن ترى البشر كجزء من العالم المادي.
يتحدد سلوك الإنسان بالقوى المادية، مثله في ذلك مثل سلوك أي كائن طبيعي آخر.
لقد كانت دراسة التاريخ الإنساني جزءا من الدراسة العلمية للعالم الحي.
وأطلق على المفكرين الذين تمسكوا بوجهات النظر هذه بـ الماديين.
اعتبر ماركس المادية خطوة عظيمة للأمام بالمقارنة بالتصورات الدينية والمثالية الأخرى في التاريخ.
فلقد عني ذلك أنك تستطيع أن تتناقش بشكل علمي فيما يتعلق بتغيير ظروف المجتمع وبأنك لا تعتمد في ذلك مرة أخرى على الصلاة لله أو على "التغير الروحي" للناس.
فاستبدال المثالية بالمادية كان معناه استبدال الخرافة بالعلم.
ولكن مع ذلك، فليست كل التفسيرات المادية لسلوك الإنسان صحيحة. فكما كانت هناك نظريات علمية خاطئة في علوم الأحياء أو الكيمياء أو الفيزياء، كانت هناك أيضا محاولات خاطئة لتطوير نظريات علمية خاصة بالمجتمع.
وفيما يلي سنقدم بعض الأمثلة:
من الأفكار المادية غير الماركسية الشائعة هي أن البشر لا يتعدوا كونهم حيوانات تتصرف بشكل "طبيعي" وفي أشياء معينة.
فكما أن القتل هو طبيعة الثعالب أو أن الوداعة هي طبيعة الخرفان، فأيضا من طبيعة البشر أن يكونوا عدوانيين ومتسلطين ومتنافسين وطماعين؛ (ومن ذلك نستنتج أن النساء هن بطبعهن ماكرات وخاضعات ومراعيات للآخرين وسلبيات).
ويمكن أن نجد أفضل رأي حول ما سبق في كتاب القرد العاري.
وخلاصة ما نخرج به من مثل تلك الأفكار ما هي إلا ردود فعل متباينة.
فإذا كان البشر بطبيعتهم عدوانيين، فالنتيجة إذن هي أنه لا يوجد منطق من محاولة تطوير المجتمع. فالأوضاع لن تتغير أبدا، والثورات سوف "تفشل دائما".
ولكن، في الحقيقة، نجد أن "طبيعة الإنسان" تتغير من مجتمع إلى آخر.
فعلى سبيل المثال، التنافس الذي يعتبر شيء مسلّم به في مجتمعنا، لم يكن موجودا تقريبا في مجتمعات كثيرة سابقة.
فعندما حاول العلماء أن يجروا اختبارات الذكاء لفئة من الهنود تدعى السيوكس، وجدوا أن الهنود لا يفهمون لماذا لا يستطيعون أن يساعدوا بعضهم البعض في حلّ الأسئلة.
فالمجتمع الذي عاشوا فيه كان يؤكد على قيمة التعاون وليس المنافسة.
ونجد الحكاية متشابهة مع فكرة العدوانية.
فعندما قابل الإسكيمو الأوربيين لأول مرة، لم يستطيعوا أن يفهموا على الإطلاق معنى "الحرب". ففكرة أن هناك مجموعة من البشر تريد إبادة مجموعة أخرى كانت فكرة مجنونة بالنسبة لقبائل الإسكيمو.
وفي مجتمعنا، من "الطبيعي" بالنسبة لنا أن الآباء يجب أن يحبوا ويحموا أبناءهم. ومع ذلك نجد أنه في مدينة إسبرطة الإغريقية القديمة كان من "الطبيعي" أن يترك الآباء أطفالهم في الجبال لوحدهم لكي يعرفوا إذا ما كانوا سيستطيعون تحمل البرد القارص.
وهكذا، فإن فكرة "الطبيعة الإنسانية التي لا تتغير" لا تقدم تفسيرا للأحداث التاريخية الهامة. فأهرامات مصر، أو روعة اليونان القديمة، أو إمبراطوريات روما أو الإنكاس، أو المدينة الصناعية الحديثة، توضع كلها على نفس الدرجة مع الفلاحين الأميين الذين عاشوا في الأكواخ الطينية في العصور المظلمة.
ويعتبر الشيء الهام الوحيد في هذه النظرية هو "القرد العاري" - وليست الحضارة العظيمة التي بناها هذا القرد. كما تعتبر بعض أشكال المجتمع التي نجحت في إطعام تلك "القردة" غير معترف بها، بينما يُعترف بمجتمعات أخرى تترك الملايين من البشر يموتون من الجوع.
من ناحية أخرى، يقبل الكثير من الناس نظرية أخرى للمادية، والتي تؤكد على الطريقة المُثلى الممكنة لتغيير سلوك الإنسان.
فكما يمكن أن تتدرب الحيوانات على تغيير سلوكها في السيرك أو الغابة - كما يقول أنصار هذا الرأي - فإن سلوك الإنسان يمكن أن يتغير بنفس الطريقة.
فإذا استطاع الأشخاص المناسبين أن يتولوا مقاليد الأمور في المجتمع، كما يقال، فإن "طبيعة الإنسان" يمكن أن تتغير.
تمثل وجهة النظر هذه خطوة كبيرة للأمام عن نظرية "القرد العاري"، ولكنها تفشل في تفسير كيف يتغير المجتمع ككل. فإذا كان كل شخص متكيفاً بشكل كامل في مجتمع اليوم، فكيف يمكن إذن أن يرقى مستوى أي فرد عن المجتمع لكي يرى كيف يمكن تغيير آليات التكيف هذه؟ فهل هناك مثلا أقلية مختارة من الله تمتاز بالمناعة الكاملة ضد الضغوط التي تسيطر على باقي البشر؟
فإذا كنا جميعا حيوانات في سيرك، فمن الذي سيصبح مروض الأسود؟
إن أولئك الذين يؤمنون بهذه النظرية ينتهي بهم الحال إلى القول بأن المجتمع لا يمكن أن يتغير (مثلهم في ذلك مثل أصحاب نظرية القرد العاري)، أو أنهم يعتقدون أن التغيير يحدث بواسطة شيء ما خارج نطاق المجتمع - مثل الله، أو "رجل عظيم"، أو من خلال قوة أفكار الأشخاص. فـ "ماديتهم" تتيح لنموذج آخر من المثالية أن يدخل من باب خلفي.
وكما أشار ماركس، إن هذه العقيدة تنتهي بالضرورة إلى تقسيم المجتمع إلى فريقين بحيث يكون أحدهما متفوق على الآخر.
وتعتبر وجهة النظر "المادية" هذه ما هي إلا رد فعل.
إن أحد أنصار هذا الرأي من المشهورين اليوم هو عالم نفسي أمريكي يدعى سكينر. يريد سكينر أن يكيّف الناس بحيث يتصرفون بطرق معينة. ولكن بما أنه هو نفسه نتاج للمجتمع الرأسمالي الأمريكي، فطرق "التكييف" التي سيتبعها تعني محاولة جعل الناس يتأقلمون مع هذا المجتمع.
وهناك رأي مادي آخر يوقع بكل البؤس الموجود في العالم على عاتق "الضغوط السكانية".
(ويطلق عادة على هذا الرأي - مالثسي - نسبة إلى مالثس وهو الاقتصادي البريطاني الذي عاش في القرن الثامن عشر وأول من ابتدعوا هذه النظرية).
ولكن هذا الرأي لا يستطيع تفسير لماذا مثلا تحرق الولايات المتحدة فائض الذرة لديها بينما يموت الكثيرون في الهند من الجوع.
ولا يستطيع أيضا أن يفسر لماذا لم يكن هناك منذ 150 سنة غذاء من إنتاج الولايات المتحدة يكفي لإطعام 10 مليون من البشر، بينما في عالم اليوم لديهم من الغذاء ما يكفي لإطعام 200 مليون فرد.
فتلك النظرية تتناسى أن كل فم إضافي يحتاج للغذاء هو أيضا إنسان إضافي يستطيع العمل وتحقيق الثروة.
أشار ماركس إلى أن كل تلك التفسيرات الخاطئة ما هي إلاّ أشكال للمادية "الميكانيكية" أو "البدائية". فكلها تتناسى أنه بينما يعيش البشر كجزء من العالم المادي، فهم أيضا أشخاصا فاعلة قادرة على تغيير هذا العالم.
التفسير المادي للتاريخ "يمكن تمييز البشر عن الحيوانات بالوعي، الدين أو أي شيء آخر تحبه.
فهم أيضا يبدءون في تمييز أنفسهم عن الحيوانات بمجرد أن يبدءوا في إنتاج وسائل العيش - أي غذاءهم ومسكنهم وملبسهم."
بهذه الكلمات، أكد كارل ماركس من البداية على النقطة الأساسية التي تميز تفسيره لكيفية تطور المجتمع.
إن البشر حيوانات تطورت من كائنات تشبه القردة.
ومثل الحيوانات الأخرى، فإن أول ما يشغلهم هو إطعام وحماية أنفسهم من المناخ.
فالطريقة التي تقوم بها الحيوانات الأخرى لعمل ذلك يعتمد على بنيتهم البيولوجية المتوارثة.
فالذئب يبقى حيا من خلال مطاردة وقتل فريسته بطرق تحددها غرائزه البيولوجية المتوارثة.
وهو ينعم بالدفء في الليل البارد بسبب الفرو الذي يغطيه.
وهو أيضا يربي أطفاله بالطرق السلوكية المتوارثة.
أما حياة البشر فهي غير جامدة أو محددة بهذه الطريقة.
فالبشر الذين جابوا أنحاء العالم منذ 100,000 أو 30,000 سنة قد عاشوا حياة مختلفة تماما عنا اليوم.
لقد عاشوا في الأكواخ وبطون الأرض، ولم يكن لديهم أواني لحفظ الطعام أو الماء، واعتمدوا في غذائهم على جمع البذور أو إلقاء الحجارة على الحيوانات البرية.
كما أنهم لم يستطيعوا الكتابة أو عدّ الأرقام فيما عدا أرقام أصابعهم.
ولم يكن لديهم أي معرفة حقيقية بما كان يجري بعيدا عن جيرانهم القريبين أو ما قد فعله آباءهم من قبلهم.
ومع ذلك، فإن شكلهم الجسماني منذ 100,000 سنة كان مشابها لشكل إنسان العصر الحديث، وكان مطابقا له تماما منذ 30,000 سنة. فإذا أتيت مثلا برجل الكهف وغسلت جسده وحلقت له ذقنه وشعره وألبسته بدلة وجعلته يمشي في الشارع، فلن يتصور أحد أنه يبدو مختلفا.
فكما أشار عالم الحفريات جوردون تشايلد:
"إن هياكل أجدادنا الأوائل تنتمي إلى المراحل الأخيرة للعصر الثلجي …
ومنذ بداية ظهور الهياكل البشرية في السجلات الجيولوجية، فإن تطور جسم الإنسان وقف عند نقطة معينة على الرغم من أن تطوره الحضاري كان في بداياته."
حول نفس هذه الفكرة، قال عالم الحفريات ليكي:
"إن الاختلافات الجسمانية بين إنسان حضارتي الأوريجناسيان والماجدلينيان (منذ 25000 عام) من ناحية، وإنسان اليوم من ناحية أخرى هي اختلافات ثانوية، بينما نجد الاختلاف الحضاري شديد الاتساع."
وبكلمة "حضارة" يعني عالم الحفريات الأشياء التي يتعلمها الرجال والنساء ويعلموها لبعضهم البعض ( كيفية حياكة الملابس مثلا من الفرو أو الصوف، كيفية عمل الأواني من الطين، كيفية إشعال النار للطهي، كيفية بناء السكن، … إلخ)
مقارنة بالأشياء التي تعرفها الحيوانات بغريزتها.
إن حياة الإنسان الأول كانت مختلفة تماما عن حياة الحيوانات الأخرى. فالإنسان الأول كان يستطيع استخدام الصفات الجسمانية الخاصة بالبشر - مثلا المخ الكبير، والأوصال الأربعة التي يستطيع إمساك الأشياء بها - لكي يشكل الطبيعة من حوله ويطوعها لاحتياجاته.
ولقد عني ذلك أن الإنسان يمكنه التأقلم مع كمّ هائل من الظروف المختلفة وبدون أي تغيير في بنيته الجسمانية.
فالإنسان لم يعد يقوم بردود أفعال تجاه ما حوله فقط، ولكنه بدأ في اتخاذ مبادرات والقيام بأفعال تجاه ما حوله وبدأ يغيرها تبعا لإرادته.
في البداية، استخدم الإنسان العصي والحجارة لمهاجمة الوحوش الضارية، وقام بإشعال النار ليوفر لنفسه الدفء والضوء، وقام أيضا بتغطية نفسه بأوراق الأشجار وجلود الحيوانات.
وعلى مدار عشرات الآلاف من السنين، تعلم الإنسان أن يشعل النار بنفسه ويشكل الحجارة باستخدام أنواع أخرى منها، كما تعلم في النهاية زراعة غذائه وتخزينه في أوانٍ مصنوعة من الطين وأيضا تعلم تربية الحيوان.
ومنذ 5000 سنة من التاريخ الإنساني الذي يعود إلى نصف مليون سنة مضت، تعلم الإنسان سر تحويل المعدن الخام إلى معادن يمكن تشكيلها لصناعة الآلات التي يمكن الاعتماد عليها كأسلحة فعالة.
وكل من تلك التطورات كان لها تأثيرا هائلا، ليس فقط في جعل الحياة أسهل للإنسان لإطعام نفسه وتوفير ملبسه، ولكن أيضا في تغيير نظام الحياة البشرية ذاتها. فمنذ البداية، كانت حياة الإنسان اجتماعية.
ولقد استطاع الإنسان قتل الوحوش فقط من خلال الجهود المشتركة لعدد من الأشخاص، وينطبق ذلك على جمع الطعام وإشعال النار.
كان على البشر أن يتعاونوا.
ساعد هذا التعاون المستمر على أن يبدأ البشر في التفاعل بواسطة نطق أصوات معينة ثم بعد ذلك تكوين اللغة. في البداية، كانت المجموعات الاجتماعية بسيطة.
فلم يكن هناك إنتاج من الطبيعة يكفي لإبقاء مجموعات كبيرة من البشر على قيد الحياة وبصحة جيدة، ربما فقط بعض الأعداد البسيطة.
وكان المجهود الأعظم ينفق في المهام الأساسية لإنتاج الطعام؛ ولذلك، فلقد قام الجميع بنفس العمل وعاشوا نفس نوعية الحياة.
وبدون وجود أية وسائل لتخزين الطعام، لم تكن هناك ملكية خاصة أو انقسامات طبقية. ولم تكن هناك أيضا أية غنائم توجِد دافعا للحرب.
وحتى بضعة سنوات قليلة مضت، كانت ما تزال هناك المئات من المجتمعات في أنحاء متفرقة من العالم تعيش بنفس ذلك النمط - مثلا بين بعض قبائل الهنود في شمال وجنوب أمريكا، وبعض سكان أفريقيا والمحيط الهادي، وأيضا بين الأروميين في أستراليا.
وليس تفسير ذلك أن هؤلاء البشر أقل منا ذكاء أو أن"عقليتهم بدائية".
فسكان أستراليا الأصليين - الأروميين - كان عليهم أن يتعلموا كيفية التعرف على الآلاف من النباتات وعادات أنواع كثيرة من الحيوانات المتنوعة حتى يستطيعوا البقاء على قيد الحياة.
ولقد وصف عالم الأنثروبولوجيا فيرث ذلك بقوله:
"إن سكان قبائل أستراليا …
يعرفون عادات وعلامات واختلاف الفصول عند الحيوانات التي تؤكل وطرق تربيتها بالإضافة إلى معرفتهم بالأسماك والطيور التي يصطادونها. وهم يعرفون أيضا الخصائص الخارجية وبعض تلك الداخلية للصخور والأحجار والشمع والصمغ والنباتات والأنسجة ولحاء الأشجار؛ ويعرفون كيف يشعلون النار؛ ويعرفون كيفية استخدام الحرارة لتخفيف الألم ووقف النزيف وتأخير تعفن الطعام الطازج؛ كما أنهم يستخدمون النار والحرارة لتشكيل بعض الأخشاب وجعلها صلبة وتليين بعضها الآخر…
وهم يعرفون أيضا شيئا ما عن تعاقب فترات القمر، وحركة المد والجزر، ودوران الكواكب، وتعاقب مواعيد الفصول.
لقد استطاعوا أن يتعرفوا على تغيرات المناخ ونظم الرياح، والخصائص السنوية للرطوبة والحرارة، وتدفق النمو عند الأحياء الطبيعية …
بالإضافة إلى ذلك، فإنهم يستخدمون نتاج الحيوانات التي يقتلونها من أجل الطعام بشكل ذكي واقتصادي، فهم يأكلون جلد الكنغرو ويستخدمون عظام الأرجل في صناعة الآلات الحجرية وكمسامير، ويستخدمون الأعصاب في ربط الرماح، والمخالب في صناعة الأساور بالشمع والأنسجة، ثم يخلطون الدهون بالغراء الأحمر لعمل المساحيق، ويخلطون الدم بالفحم النباتي لعمل الدهانات …
ولديهم أيضا بعض المعرفة بمبادئ الميكانيكا، ويصنعون البمرنغ أو قطع الخشب الملوية المعقوفة التي يبرمونها مرة بعد الأخرى لتأخذ التقويس المضبوط."
لقد كانوا "أمهر" منا كثيرا في التعامل مع مشاكل البقاء في الصحراء الأسترالية.
وما لم يتعلموه هو كيفية زرع البذور لينتجوا طعامهم بأنفسهم - وهو شيء تعلمه أجدادنا منذ حوالي 5000 سنة فقط بعد أن مكثوا على وجه الأرض أضعاف تلك السنوات بمئات المرات.
إن تطور تقنيات جديدة لإنتاج الثروة - أي وسائل معيشة الإنسان - قد خلقت أشكال جديدة من التعاون بين البشر، أو علاقات اجتماعية جديدة.
فعلى سبيل المثال، عندما تعلم البشر في البداية زراعة طعامهم (بواسطة زراعة البذور وتربية الحيوان) وتخزينه (في أوانٍ من الطين)، اعتُبر ذلك ثورة كاملة في الحياة الاجتماعية - أطلق عليها بواسطة علماء الحفريات "ثورة العصر الحجري." كان على البشر أن يتعاونوا مع بعضهم البعض لكي يحرثوا الأرض ويحصدوا الطعام، وأيضا ليصطادوا الحيوانات. وهكذا، أصبح بإمكانهم أن يعيشوا مع بعض بأعداد كبيرة عن ذي قبل وأن يخزنوا طعامهم وأن يبدءوا في مبادلة بضائعهم مع مجموعات أخرى من البشر.
وهكذا، كان في الاستطاعة أن تنمو المدن الأولى. فللمرة الأولى، توفرت إمكانية أن يعيش بعض الناس حياة خالية من عبء إنتاج الطعام فقط:
فالبعض أصبح يمكنه التخصص في صناعة الأواني، والبعض الآخر في صناعة صوان المعادن وبعد ذلك المعادن التي أنتجت الآلات والأسلحة، كما تخصص البعض الآخر في مهام إدارية أولية لإدارة شئون المستوطنة ككل.
والأهم من ذلك كله أن فائض الطعام خلق دافعا للحرب.
بدأ البشر اكتشاف طرق جديدة للتعامل مع العالم المحيط بهم، أو تطويع الطبيعة لخدمة احتياجاتهم. ولكن في خلال هذه العملية، وبدون قصد، فقد طوّروا المجتمع الذي عاشوا فيه، وبالتالي حياتهم هم أيضا. لخّص ماركس تلك العملية بقوله أن تطوير "عوامل الإنتاج" قد غيرت "علاقات الإنتاج"، ومن خلال ذلك المجتمع ككل.
وهناك الكثير من الأمثلة الحديثة.
منذ 300 سنة مضت، عاش غالبية السكان في هذا البلد على نتاج الأرض، حيث كانوا ينتجون الطعام بواسطة آلات لم تتطور كثيرا على مدار قرون عدة.
وبالتالي، كانت آفاق تفكيرهم محددة بحدود قريتهم ومفاهيمهم متأثرة إلى حد كبير بالكنيسة.
فالغالبية العظمى لم تكن في حاجة للقراءة أو الكتابة ولم يتعلموهما أبدا.
ثم منذ 200 سنة، بدأت الصناعة في التطور.
فلقد جيء بعشرات الآلاف من البشر للعمل في المصانع. وهكذا، حدث تحول هائل في حياتهم.
فالآن، عاش هؤلاء الأفراد في المدن الكبيرة وليس في القرى الصغيرة.
واحتاجوا إلى أن يتعلموا عدد من المهارات لم يكن ليحلم بها أجدادهم من قبلهم، بما في ذلك تعلم القراءة والكتابة.
كما ساعد بناء السكك الحديدية والبواخر على إمكانية السفر حول نصف الكرة الأرضية.
ولم تعد الأفكار القديمة التي تعلموها من القساوسة تناسبهم على الإطلاق في ظل ذلك التطور .
فالثورة المادية في الإنتاج شكلت أيضا ثورة في أسلوب حياتهم والأفكار التي آمنوا بها.
والآن، ما زال هناك مثل تلك التغيرات التي تؤثر على حياة الكثير من البشر. أنظر مثلا إلى الطريقة التي يُحضر بها أفراد من قرى بنجلاديش أو تركيا إلى المصانع في إنجلترا أو ألمانيا من أجل العمل.
أنظر إلى كيف أن الكثير منهم يجدون أن عاداتهم القديمة واتجاهاتهم الدينية لم تعد تناسبهم.
أو أنظر إلى الـ50 سنة الماضية والطريقة التي تعودت عليها النساء في العمل خارج المنزل وكيف أن هذا التغير قد ساعدهن على مناهضة الأفكار القديمة التي جعلتهن ملكاً لأزواجهن.
فالتغيرات التي تطرأ على عمل البشر مع بعضهم البعض لإنتاج الطعام والملبس والمسكن الذي يحتويهم تؤدي إلى تغيرات في الطريقة التي ينتظم بها المجتمع واتجاهات الناس فيه.
إن هذا هو سر التغير الاجتماعي - تغير التاريخ - والذي لم يفهمه الكثير من المفكرين قبل ماركس (والكثيرين أيضا منذ ظهور نظريته) مثل الطوباويين والماديين الميكانيكيين.
لقد رأى الطوباويون أن هناك تغيير - ولكنهم قالوا أنه يأتي من السماء. أما الماديين الميكانيكيين فقد رأوا أن البشر يتكيفون بالعالم المادي ولكنهم لم يستطيعوا أبدا فهم كيفية حدوث التغيير.
ما رآه ماركس، من ناحية أخرى، هو أن البشر يتكيفون بالعالم من حولهم، ولكنهم يتفاعلون مع هذا العالم ويعملون لجعله أكثر صلاحية للسُكنى. وهم في ذلك يغيرون الظروف التي يعيشون فيها، وبالتالي فهم يغيرون من أنفسهم أيضا.
إن مفتاح فهم التغيير في المجتمع يكمن في فهم كيفية تعامل البشر مع مشكلة إنتاج طعامهم ومسكنهم وملبسهم. لقد كانت تلك هي النقطة التي انطلق منها ماركس.
ولكن هذا لا يعني أن الماركسيين يؤمنون بأن التطور في التكنولوجيا ينتج أوتوماتيكيا مجتمعا أفضل أو أن الاكتشافات العلمية تؤدي أوتوماتيكيا إلى تغيرات في المجتمع.
لقد رفض ماركس هذه الرؤية (والتي يطلق عليها أحيانا الحتمية التكنولوجية).
ومرة بعد أخرى في التاريخ، قامت الجماهير برفض الأفكار التي تطور من إنتاج الطعام والمسكن والملبس لأن هذا التطور يصطدم مع اتجاهات أو أنماط المجتمع السائدة.
ففي ظل الإمبراطورية الرومانية، على سبيل المثال، كانت هناك أفكار عديدة عن كيفية إنتاج محاصيل أكثر من مساحة أرض معينة ولكن الناس لم تفعل ذلك لأنه كان سيتطلب إخلاص في العمل أكثر مما يمكن الحصول عليه من العبيد وهم يعملون تحت ضغط الخوف من الكرباج.
وعندما حكم البريطانيون أيرلندا في القرن الثامن عشر، فقد حاولوا أن يوقفوا نمو الصناعة هناك لأنها اصطدمت مع مصالح رجال الأعمال في لندن.
فإذا جاء أحد وقدم طريقة معينة لكي يحل مشكلة نقص الطعام في الهند بذبح البقر المقدس، أو أن أحدا حاول توفير اللحم لكل فرد في بريطانيا من خلال تصنيع لحوم الفئران، فسوف يتم تجاهل هذا الشخص تماما بسبب تمسك الناس بالمفاهيم السائدة.
إن التطور في الإنتاج يتحدى المفاهيم القديمة والطرق القديمة لتنظيم المجتمع، ولكن هذا التطور لا يطيح بشكل أوتوماتيكي بتلك المفاهيم القديمة وأشكال المجتمع السائدة.
فالكثير من الناس تحارب أحيانا من أجل منع حدوث تغيير ما - وأولئك الذين يرغبون في استخدام طرق جديدة للإنتاج عليهم أن يحاربوا من أجل إحداث التغيير.
وإذا كسب المعركة أولئك الذين يعارضون التغيير، فلن يتم توظيف الأشكال الجديدة للإنتاج وسوف يصاب المجتمع بحالة ركود أو يتقهقر للوراء.
إن التعريف الماركسي يقول:
عندما يحدث تطور في قوى الإنتاج، فإنها تصطدم بالعلاقات الاجتماعية السائدة والأفكار التي نمت على أساس القوى الإنتاجية القديمة.
وحينئذ فإما أولئك الذين يؤيدون قوى الإنتاج الجديدة سوف يكسبون تلك المعركة، أو سيكسبها الفريق الآخر المؤيد للنظام القديم.
وفي الحالة الأولى، يتقدم المجتمع للأمام، وفي الحالة الأخرى يركد المجتمع أو يتخلف إلى الوراء.
الفصل الثالث:
الصراع الطبقي
نحن نعيش في مجتمع منقسم إلى طبقات، يحظى فيه قليل من الناس بثروات خاصة هائلة في حين لا يملك معظمنا شيئا يذكر. ونحن نميل بالطبع لافتراض أن الأمور كانت دائما على هذا النحو. لكن في الواقع، وفي الجزء الأعظم من تاريخ الإنسان، لم تكن هناك طبقات ولا ملكية خاصة ولا جيوش أو شرطة.
كان ذلك هو الوضع خلال نصف مليون سنة من تطور الإنسان حتى 5000 أو 10000 سنة مضت. لم يكن ممكنا أن ينقسم المجتمع إلى طبقات قبل أن يكون بوسع الفرد الواحد أن ينتج من الطعام ما يفوق حاجته التي تجعله قادرا على العمل.
فما جدوى الاحتفاظ بعبيد إذا كانوا يحتاجون لاستهلاك ما ينتجونه للبقاء على قيد الحياة؟
إلا أنه بعد حدّ معين، فإن تقدم الإنتاج جعل الانقسامات الطبقية غير ممكنة فحسب بل ضرورية أيضا.
فقد صار بالإمكان إنتاج طعام يكفي لترك فائض بعد حصول المنتجين المباشرين على ما يكفيهم للبقاء على قيد الحياة.
كما توفرت وسائل تخزين هذا الطعام ونقله من مكان لآخر.
كان من الممكن ببساطة أن يأكل أولئك الذين أنتج عملهم كل هذا الطعام فائض الطعام الإضافي.
وحيث أنهم كانوا يعيشون حياة هزيلة بائسة إلى حد كبير، فإن الإغراء كان كبيرا.
إلا أن ذلك كان من شأنه إبقائهم بلا حماية إزاء تقلبات الطبيعة التي قد تأتي بمجاعة أو فيضان في العام التالي، أو القدرة على مواجهة الهجمات من القبائل الجائعة من خارج المنطقة.
في البداية، كانت هناك مصلحة كبيرة للجميع في أن تتولى جماعة خاصة من الناس مسئولية هذه الثروة الإضافية بحيث يخزنونها تحسبا للكوارث المستقبلية، ويستخدمونها لدعم الحرفيين وبناء وسائل الدفاع، ومبادلة جزء منها مع أناس بعيدين مقابل أشياء مفيدة. بدأ القيام بتلك الأنشطة في المدن الأولى حيث عاش الإداريون والتجار والحرفيون. وبدأت الكتابة تتطور من خلال العلامات على الألواح المستخدمة لحفظ السجلات الخاصة بمختلف أنواع الثروة.
تلك كانت الخطوات المتعسّرة الأولى لما نسميه "الحضارة".
إلا أن ذلك كله كان قائما على السيطرة على الثروة المتزايدة بواسطة أقلية من السكان.
واستخدمت الأقلية الثروة لمصلحتها وكذلك لصالح المجتمع ككل.
كلما زاد الإنتاج تطورا كلما زادت الثروة التي تتركز في أيادي تلك الأقلية، وكلما زاد ما يتم استقطاعه من باقي المجتمع.
فالقواعد التي ظهرت كوسائل لإفادة المجتمع أصبحت "قوانين" وأصرت على أن الثروة والأرض التي أنتجتها كانت "الملكية الخاصة" للأقلية. لقد ظهرت الطبقات الحاكمة للوجود وكانت القوانين تدافع عن سلطاتها.
من الممكن أن تتساءل عما إذا كان ممكنا للمجتمع أن يتطور بشكل آخر بالنسبة لأولئك الذين كانوا يعملون في الأرض لكي يستطيعوا السيطرة على إنتاجهم؟
الإجابة هي لا، ليس بسبب "طبيعة الإنسان" لكن بسبب أن المجتمع كان لا يزال فقيرا للغاية.
كانت الغالبية من سكان الأرض مشغولة تماما في نبش التربة من أجل حياة هزيلة، فلم يكن هناك وقت لتطوير أنظمة القراءة والكتابة أو خلق أعمال فنية، أو بناء السفن للتجارة أو وضع خريطة لسير النجوم لاكتشاف مبادئ الرياضيات والاستعداد لوقت فيضان الأنهار، أو كيفية شقّ قنوات الري. هذه الأشياء كان يمكن لها أن تحدث فقط في حالة مصادرة بعضا من ضرورات الحياة من غالبية جمهور السكان واستخدامها للحفاظ على حياة أقلية متميزة والتي ليس عليها أن تشقى من شروق الشمس لغروبها.
على أية حال، إن هذا لا يعني أن الانقسام لطبقات ما زال ضروريا اليوم.
فلقد شهد القرن الماضي تطورا للإنتاج يفوق الخيال في تاريخ الإنسانية السابق كله.
لقد تم التغلب على الندرة الطبيعية - وما هو موجود الآن يعتبر ندرة مصطنعة تنتج بسبب أن الحكومات تدمر مخزون الغذاء.
إن المجتمع الطبقي اليوم يعود بالإنسانية للخلف ولا يقودها للأمام.
لم يكن هذا مجرد تغيرا أولياً من المجتمعات الزراعية النقية إلى مجتمعات المدن الصغيرة والكبيرة والتي أنتجت بالضرورة الانقسامات الطبقية الجديدة.
فنفس العملية كانت تُعاد كل مرة بظهور طرق جديدة لإنتاج الثروة.
وهكذا، ففي بريطانيا ومنذ آلاف السنين، تألفت الطبقة الحاكمة من البارونات الإقطاعيين الذين كانوا يسيطرون على الأرض ويعيشون على كواهل العبيد.
لكن بمجرد أن بدأت التجارة تتطور بشكل كبير هناك، بدأ في نفس الوقت نمو طبقة متميزة جديدة من التجار الأغنياء في المدن.
وعندما بدأت الصناعة تتطور على مستوى كبير، بدأ أصحاب المشروعات الصناعية ينافسوهم في قوتهم.
وفي كل مرحلة من تطور المجتمع، كانت هناك طبقة مضطَهَدة، ومن خلال قوة عملهم خُلقت الثروة ومعها طبقة حاكمة سيطرت على هذه الثروة.
لكن لأن المجتمع يتطور، فإن كل من المضطَهَدين والمضطَهِدين خضعوا للتغيير.
في المجتمع العبودي لروما القديمة، كان العبيد ملكية شخصية للطبقة الحاكمة.
كان مالك العبيد يملك السلع التي ينتجها العبد لأنه يملك العبد نفسه، بنفس الطريقة بالضبط التي كان يملك بها اللبن الذي تنتجه البقرة لأنه يملك البقرة.
في المجتمع الإقطاعي في العصور الوسطى، كان لدى الأقنان أراضيهم الخاصة بهم وكانوا يملكون ما ينتج منها.
لكن في مقابل حيازة تلك الأرض، كان عليهم أن يقوموا بعدد من الأعمال في أيام محددة خلال السنة في الأرض المملوكة من قِبل السيد الإقطاعي.
وبذلك، فإن وقتهم كان يتم تقسيمه - ربما نصف وقتهم كانوا يخصصونه للسيد ونصف الوقت الآخر لأنفسهم؛ وإذا رفضوا القيام بالعمل للسيد الإقطاعي فقد كان يستطيع معاقبتهم إما بالجلد أو السجن أو ما هو أسوأ من ذلك.
في المجتمع الرأسمالي الحديث، لا يملك المدير العامل جسديا ولا هو مخوّل بمعاقبته جسديا إذا ما رفض العامل أن يقوم بعمل غير مدفوع الأجر من أجله.
لكن المدير يملك المصانع حيث يضطر العامل أن يجد وظيفة لو أراد أن يبقى على قيد الحياة.
ولذلك، فمن السهل تماما بالنسبة للمدير أن يجبر العامل على أن يتحمل الأجر الذي يُدفع له وهو أقل بكثير من قيمة السلع التي يصنعها العامل في المصنع.
وفي كل حالة من تلك، تسيطر الطبقة المستغِلة على الثروة المتبقية بمجرد سدّ الاحتياجات الأساسية جدا للعمال.
كان مالك العبد يهدف إلى أن يُبقي ملكيته في حالة جيدة، ولذلك فهو يغذي عبده تماما بنفس الطريقة التي تزود سيارتك بالبنزين.
لكن كل شيء يفيض عن الحاجات المادية للعبد يستخدمها المالك لمتعته الخاصة.
أما بالنسبة لعبد الإقطاعي، فكان يُطعم نفسه ويوفر ملبسه من خلال العمل الذي يبذله في جزء الأرض الذي يملكه.
ولكن فيما يتعلق بالعمل الإضافي الذي يبذله في أرض السيد فإن ثماره تذهب إلى السيد.
أما العامل في العصر الحديث فيحصل على أجر. وكل الثروة الأخرى التي ينتجها تذهب للطبقة الحاكمة كربح أو فائدة أو إيجار.
الصراع الطبقي والدولة
نادرا ما يتقبل العمال نصيبهم من العمل بدون مقاومة أو صراع.
فلقد كان هناك ثورات للعبيد في مصر القديمة وروما وثورات فلاحية في الصين الإمبريالية، وحروب أهلية بين الأغنياء والفقراء في المدن اليونانية القديمة وروما وأوروبا في عصر النهضة. كان هذا هو سبب أن بدأ كارل ماركس منشوره البيان الشيوعي مؤكدا على:
"إن تاريخ كل مجتمع موجود إلى يومنا هذا هو تاريخ الصراع الطبقي." اعتمد نمو الحضارة على استغلال إحدى الطبقات لأخرى، وبالتالي على الصراع فيما بينهما.
فمهما وصلت قوة الفرعون المصري أو الإمبراطور الروماني أو أمير العصور الوسطى، ومهما بلغت الرفاهية التي كانوا يعيشون فيها، ومهما كانت روعة قصورهم، فإنهم كانوا لا يستطيعون فعل أي شيء إلا إذا ضمنوا أن المنتجات المتوفرة بواسطة الفلاحين البؤساء والعبيد تنتقل إلى ملكيتهم. وهم يستطيعون فعل ذلك فقط إذا كان هناك بجانب هذا الانقسام الطبقي نموا لشيء آخر - وهو السيطرة على وسائل العنف بأنفسهم وبواسطة مؤيديهم.
في المجتمعات المبكرة، لم يكن هناك جيش أو شرطة أو أجهزة حكومية منفصلة عن غالبية الناس. وحتى منذ 50 أو 60 سنة مضت - على سبيل المثال - كان لا يزال هناك في مناطق في أفريقيا إمكانية لوجود مجتمعات من هذا النوع. فالعديد من المهام التي تقوم بها الدولة في مجتمعنا كانت تتم ببساطة وبشكل غير رسمي بواسطة جميع السكان أو من خلال اجتماعات لممثلين من بينهم.
كانت تلك الاجتماعات تقيّم سلوك أي فرد إذا ما كسر قاعدة اجتماعية هامة، وكانت العقوبة تطبق بواسطة المجتمع ككل.
فعلى سبيل المثال، ربما يكون الحكم أن يُجبر المخطئين على الرحيل.
وبما أن كل الأفراد قد وافقوا على العقوبة اللازمة، لم يكن هناك احتياج لوجود قوات شرطة منفصلة لتنفيذ العقوبات.
وإذا اندلعت الحرب، فكل الرجال من الشباب يشاركون فيها تحت قيادة يتم اختيارها مخصوص للقيام بهذه المهمة، ومرة أخرى بدون أي هيكل منفصل للجيش.
لكن بمجرد أن يكون لديك مجتمع تسيطر فيه أقلية على معظم الثروة، تصبح هذه الطرق البسيطة للحفاظ على "القانون والنظام" وتنظيم الحرب غير فعالة.
ويصبح أي اجتماع للممثلين أو أي تجمع للشباب المسلح من المرجّح أن ينقسم بناء على الفروق الطبقية.
تستطيع المجموعة ذات الامتيازات أن تحيا فقط من خلال احتكارها لِسَنّ وتنفيذ العقوبات والقوانين وتنظيم الجيوش وإنتاج الأسلحة.
وهكذا، نجد أن الفصل بين الطبقات كان مرتبطا بظهور جماعات القضاة ورجال الشرطة والبوليس السري والجنرالات والبيروقراطيين، بحيث يحصل كل منهم على جزء من الثروة التي في يد الطبقة صاحبة الامتيازات في مقابل حماية حكمها أو سلطتها.
إن أولئك الذين خدموا في صفوف هذه "الدولة" كانوا مدربين على طاعة أوامر قادتهم بدون تردد، كما كانوا مفصولين عن أية روابط اجتماعية عادية مع الجماهير المستغَلة.
وهكذا، تطورت الدولة كآلة للقتل في يد الطبقة المتميزة واستطاعت أن تكون آلة فعالة للغاية.
بالطبع، أراد الجنرالات الذين يديرون هذه الآلة أن يوقعوا بالإمبراطور أو الملك المعين لكي ينصّبوا أنفسهم في مكانه.
أما الطبقة الحاكمة التي سلحت هذا الوحش فلم يكن في مقدورها في الكثير من الأحيان أن تسيطر عليه. ولكن لأن الثروة المطلوبة لإبقاء آلة القتل دائرة تأتي من استغلال مجاميع العمال، فإن أي تمرد كان يتبعه استمرار للمجتمع الذي كان موجودا في السابق.
وعلى مدار التاريخ، نجد أن البشر الذين أرادوا بالفعل تغيير المجتمع للأفضل قد وجدوا أنفسهم في مواجهةمع - ليس فقط الطبقة صاحبة الامتيازات - ولكن أيضا تلك الآلة المسلحة: الدولة التي تخدم مصالحها.
لقد نشأت في الأساس الطبقات الحاكمة ومعها القساوسة والجنرالات ورجال الشرطة والنظم القانونية التي دعمتها لأنه بدونهم لم تكن للحضارة أن تتطور. لكن بمجرد أن يثبّتوا أقدامهم في السلطة، يصبح لديهم مصلحة في إعاقة تطور الحضارة.
فسلطتهم تعتمد على قدرتهم على إخضاع أولئك الذين ينتجون الثروة بحيث يقدمونها لهم في النهاية.
كما أنهم يفقدون الاهتمام بالطرق الحديثة لإنتاج الثروة - حتى لو كانت اكثر كفاءة عن القديمة - خشية أن يفقدوا السيطرة عليها.
إنهم يخافون أي شيء يمكن أن يقود الجماهير المستغَلة إلى نمو مبادراتهم أو استقلاليتهم.
كما أنهم يخافون من نشأة مجموعات جديدة ذات امتيازات وثروة كافية تجعلهم قادرين على شراء الأسلحة وتسليح الجيوش الخاصة بهم.
وعند نقطة معينة، فإنهم يبدءون في تعويق تطور الإنتاج بدلا من مساعدته على التقدم للأمام.
على سبيل المثال، في فترة حكم الإمبراطورية الصينية، استند نفوذ الطبقة الحاكمة على ملكيتها للأرض وسيطرتها على القنوات والسدود التي كانت ضرورية للري من أجل تجنب الفيضانات.
ولقد مهّد هذا النفوذ الأساس لحضارة امتدت إلى حوالي 2000 سنة.
ولكن في نهاية تلك الفترة، لم يكن الإنتاج متقدم كثيرا عن البداية، على الرغم من ازدهار الفن الصيني واكتشاف الطباعة والبارود.
كل هذا في وقت كانت فيه أوروبا واقعة تحت نير العصور المظلمة.
وكان السبب في ذلك أنه عندما بدأت تظهر أشكال جديدة للإنتاج، حدث ذلك في المدن من خلال مبادرات التجار والحرفيين.
ولقد خشيت الطبقة الحاكمة هذا النمو في سلطة جماعة اجتماعية معينة والتي لم تكن تخضع لسيطرتها بشكل كامل. ولذلك، وبطريقة دورية، اتخذت السلطات الإمبريالية إجراءات صارمة لسحق الاقتصاد المتنامي في المدن ودفع الإنتاج لأسفل وتحطيم سلطة الطبقات الاجتماعية الجديدة.
إن نمو قوى جديدة للإنتاج - أي طرق جديدة لإنتاج الثروة - قد اصطدم مع مصالح الطبقة الحاكمة القديمة.
لقد تصاعد الصراع وكانت النتيجة هي التي حددت مستقبل المجتمع كله.
وفي بعض الأحيان، كانت النتيجة - كما في الصين - هي عدم السماح لأنماط جديدة من الإنتاج في الظهور، وظل المجتمع في حالة ركود لفترات طويلة من الزمن.
وفي بعض الأحيان الأخرى، كما في الإمبراطورية الرومانية، كان معنى عجز الأنماط الجديدة للإنتاج من التطور أنه في آخر الأمر لم تعد هناك ثروة كافية تُنتَج لإبقاء المجتمع قائما على قواعده الق